الطلقة الاخيرة
قصة محمود البدوى
كانت زراعة القمح هى الزراعة الغالبة فى قريتنا .. وكان محصوله يأتى بأجود غلة فى المنطقة على الإطلاق ..
وكانت أيام الحصاد هى عيدنا كل سنة .. وكنا نتخلف عن المدرسة بسببها .. حتى وإن اقترب الامتحان .. وعندما يتكوم القش فى الأجران وتدور عليه النوارج .. كنا نشعر بالبهجة الحقيقية للإنسان ..
وبعد الدريس .. نبدأ فى تذرية الجرن فى الليالى القمرية الطيبة الريح ..
ولما تنفصل الغلة عن التبن .. ونراها فى أكوام مخروطية ضخمة يبلغ بنا الفرح مداه .. ونحرسها من « العين » بالنواطير .. التى نقيمها فى طريق المزرعة .. ونزيد من البركة .. بالقلة الفخارية الممتلئة إلى حافتها بالماء نغرسها فى الغلة ..
وكانت أحسن أنواع القمح نزرعها فى الجزيرة .. حيث الأرض العذراء التى لم يمزق تربتها السماد ..
وكانت الجزيرة تبعد عن القرية بمسافة أربعة فراسخ .. وتقع على العدوة الأخرى من النيل ..
وكنا عندما نذهب إليها لندخل المحصول فى المخازن .. ننقطع انقطاعا كليا عن القرية ما يقرب من الشهر وكانت هذه الأيام هى أجمل أيام حياتنا .. كنا نحس ببراعم شبابنا تتفتح للحياة فى الشمس الضاحكة .. والهواء الطلق .. وكنا نستحم فى النيل .. ونجرى حفاة الأقدام .. ونصطاد السمك المتدفق من الفيضان .. ونشعر بأن حريتنا تأخذ كل مداها وكل طاقتها ..
وكنا نقضى ساعة القيلولة فى الخص مستظلين من وهج الشمس الحامية نلعب الطرطقة .. والسيجة ..
وكانت حولنا .. الماشية والطيور متروكة على سجيتها ، وهواها ..
وكانت الجمال باركة تجتر .. والثيران والابقار فى صف واحد وأمامها التبن المخلوط بالفول والنخالة .. والجاموس بعد أن أستحم .. فى النيل .. نام على الحشائش وجلده يلمع تحت ضوء الشمس .. وطيور .. الدجاج .. والبط .. والأوز .. ترعى الحب .. كما اتفق .. وتستحم فى مجراة « الوابور » ..
وكان بجوار الوابور .. صف من المساكن .. من الطين والبوص وجريد النخيل .. وكان الأطفال يلعبون فى الطين والوحل .. وثيابهم ممزقة .. وعيونهم متسخة .. ووجوههم ملطخة بالوحل .. وأمهاتهم فى الداخل ينفخون النيران .. أو فى الخارج يملأن القدور أو البلاليص .. من مجراة الوابور .. أو ينحدرن فى الطريق إلى النيل .. وعلى رؤسهن الطرح ..
فإذا جاء العشى .. افترشنا الدريس تحت السماء المتألقة بالنجوم وأخرج أبو طاحون المزمار الطويل من جرابه وأخذ يزمر .. وكانت عنده قدرة عجيبة على النفخ دون أن يسترد أنفاسه .. وبراعة فى إخراج أعذب الأنغام .. وكان جمالا قوى البدن يقود أربعة من الجمال الضخمة .. ويلبس نعلا طويل العنق مضفرا .. وإذا جلس إلى المزمار .. نسى نفسه .. واستغرق فى فنه .. وكنا عندما نجلس حوله ننسى أنفسنا كذلك وننسى كل ما يجرى فى الحياة الخارجة عن نطاق حدودنا ..
وكانت لنا ثلاثة أجران كبيرة .. لا تتغير أبدا .. ولم نكن ننقص أو نزيد من مقدار الأرض التى نزرعها قمحا بمقدار قيراط واحد .. أو نغير من موقع الجرن .. كان كل شىء يجرى على ترتيب ونظام دقيقين .. منذ حياة جدى عبد المنعم .. فلما خلفه والدى سار على نسقه ومنهاجه ولم يغير طريقته وترك بيت « الوسية » يسير كما كان ..
وكان الشىء المتصل بالحصاد دائما والذى يبرز بمجرد حدوثه .. هو حارس الأجران عمار .. وكان يحرس أجراننا منذ ثلاثين سنة .. ولم يغير فى خلالها موضع خصة المجدول بالليف ..
وكان عمار .. فى الفترة التى سبقت هذا العمل من أشد الرجال بطشا .. كان اسمه يرعب القلوب الفتية ..
وقد ظل الرجل طوال هذه السنين .. وحتى بعد أن انقطع عن حياة الليل .. محتفظا بكل جبروته .. وكل قوته .. وكان متوسط الطول يرتدى جلبابا من الصوف المغزول ولبدة حمراء وفى وجهه المستطيل نمش خفيف .. وفى عينية نظرة الليث إذا خرج من عرينه ..
وحتى بعد أن كبر وانحنى جذعه قليلا .. ظلت النظرة الكاسرة من أبرز صفاته ..
وكان حليما خفيض الصوت .. يجرد يده من السلاح .. فى النهار والليل .. وكان إذا حدث ما يثيره سمعت لبندقيته زئير الأسد ..
* * *
وكانت الجزيرة لرداءة مواصلاتها .. وبعدها عن نقطة البوليس تكثر فيها حوادث السرقة والنهب .. وقل من يتحرك فيها فى الليل لهذا السبب ..
ولكن منطقة عمار كانت من أكثر المناطق أمنًا .. وكان الفلاحون يجلسون بجوار خصه ويلوذون به .. ليصبحوا فى المنطقة الآمنة ..
وكان الرجل يسر جدا عندما أجىء إليه فى الأسبوع الثانى من شهر يونيه ومعى بعض الكتب التى أتسلى بقراءتها فى هذا المكان المنعزل ومع أنه لا يعرف القراءة والكتابة .. ولا فرق عنده بين الحروف العربية والحروف الصينية .. ولكنه كان يسر جدا من النور الذى يتصوره دوما يشع من الكتب .. وكنت فى نظره مثالا للشباب المتزن المتنور .. يقارننى بأبناء من يعرفهم من الفلاحين الذين يدفعهم الفقر والجهل إلى الجريمة .. ويشعر فى قرارة نفسه بالأسف لأن أولاده شبوا جهلاء مثله .. ولم يكن فى استطاعته أن يصرف عليهن ويعلمهن فى البندر ولم تكن هناك مدرسة فى القرية ..
وكان عنده ثلاثة أولاد وبنت واحدة .. وكانت البنت متزوجة .. وأكبر الأولاد يعمل فى المراكب .. أما الولدان الآخران فكانا يعيشان معه .. وكان خليفة أكبرهم .. وكان فى العشرين من عمره .. طويلا مفتول العضلات .. وكان يرعى الغنم فى الجزيرة .. ومن الغروب .. يسرحها .. ويعود لبيته .. أما الولد الثانى تغيان فكان أصغر أولاده وكان يساعد والده فى عمله ..
* * *
وكنت على الرغم من وجود الكتب معى فى هذه المنطقة .. أشعر بالسأم من الحياة الرتيبة التى يعيشها الفلاحون ، وكان الخص فى مواجهة غيط من الذرة الشامية كان ملاصقا للاجران فكنت أرقب منه .. الفلاحين وهم يعزقون الأرض ويسقون الزرع .. من مجراة الوابور .. وكنت كثيرا ما أسمع صراخ النسوة فى البيوت القريبة منا .. ثم أرى على الأثر جموعا من الفلاحين خارجين من الغيطان بفئوسهم وهراواتهم .. ومن عيونهم يطل الشرر ..
ولكن مجرد ظهور عمار من بعيد كان يغير الموقف فى الحال ويطفىء هذه النار المشتعلة .. وينسحب الفلاحون وتنفض جموعهم قبل أن يقترب منهم .. لم يكن أحد منهم يجرؤ حتى على رفع صوته فى حضرته ..
وكنت أسأل عن سبب هذا العراك فأعرف أن نعجة لفلاح أكلت من غيط فلاح آخر .. ولهذا السبب التافه تدور المعركة الحامية التى تسيل فيها الدماء .. ولولا وجودعمار فى تلك الساعة لسقط أكثر من صريع .. كانوا يتعاركون لاتفه سبب ويقضون النهار فى منازعات على القيراط والسهم ويتوجسون شرا من كل إنسان .. فما من إنسان ينفعهم أو يرعى حالهم وانما الكل يأخذون منهم ولا يعطونهم شيئا ..
وكان هذا الاحساس بالظلم ينفجر عندهم فى ظلام الليل ويدفعهم إلى السرقة وإلى السطو على العزب والقرى المجاورة ..
* * *
ولم أشاهد فى الأسبوع الأول والثانى من إقامتى فى هذا المكان .. إلا الوجوه التى ألفتها .. ولكن بمجرد ظهور الغلة ظهرت الرجل الغريبة .. ظهر الباعة على الحمير ومترجلين يبيعون المناديل الزاهية .. وأثواب الدمور والشاى والدخان .. وقطع الصابون المعطرة ..
وكانوا يأتون من البندر ومن القرى المجاورة ..
وفى عصر يوم مرت على الأجران امرأة وكانت تحمل على رأسها صرة كبيرة فيها كل ما يحتاجه الفلاح .. من دخان .. ومناديل .. وكل أصناف الأقمشة الشعبية .. ولما رأتنى وحدى فى « الخص » اقتربت منى .. ورأيت لها وجها صبوحا وعينين دعجاوين .. وفما غليظ الشفة وحسنة كبيرة على الخد وحلقة مغروسة فى الانف الدقيق .. وعرضت كل ما عندها من بضاعة.. وألحت لأشترى منها شيئا بدلال الأنثى الناضجة .. ولكنى رفضت.. فذهبت بهدوء إلى النخيل ..
وفى اليوم الثانى جاءت فى نفس الميعاد تعرض بضاعتها ، وأصبحت تجىء كل يوم ..
وعرف الفلاحون أن اسمها ناعسة .. وكنا لا نستطيع أن نشترى منها شيئا لأننا كنا نتعامل بالغلة .. وكنا لم نضرب الكيلة فى الغلة بعد ..
ونتشاءم جدا من مس أكوام الغلال قبل أن ندخل شيئا منها فى البيوت ..
وفى عصر يوم شاهدتها .. ترقص على مزمار أبو طاحون .. وكانت مثيرة فى رقصها وحركاتها .. والبريق المشع من عينيها ..
وظل السامر مشتعلا إلى الليل .. ثم أطفأت بفمها النار .. وانثنت وحملت صرتها .. وذهبت إلى النخيل .. وظللنا نتبعها بأبصارنا حتى توارت ..
* * *
وشغلنا فى صباح اليوم التالى بإدخال المحصول .. بدأنا بأول جرن وأخذت الجمال تحمل الزكائب وتسير فى صف طويل ..
وكانت قوة الشباب من الفلاحين .. تظهر فى أثناء هذا العمل .. كانوا يعملون من شروق الشمس إلى غروبها دون كلل .. وكان منهم من يرفع الزكيبة فى رفعة واحدة ..
ولاحظت من اليوم الأول أن خليفة ابن عمار .. هو أشد الفتيان قوة ..
كان يبزهم جميعا .. يرفع عشر كيلات فى رفعة واحدة ..
وكان والده ينظر إلى قوته فى فخر وزهو ..
وكان تخزين المحصول يستغرق خمسة أو ستة أيام ..
وكان عمار فى هذه الأيام لاينام فى الليل أبدا .. لأن سرقة كيلة من القمح كانت تأتى للفلاح بثوب من الدمور ..
وكانت زراعة الذرة ملاصقة لنا .. ومن السهل أن يتسرب منها اللص إلى الجرن ثم يعود ويختفى فيها ..
وكان الرجل مرهوبا بطبعه .. ولم يكن هناك إنسان يجرؤ على الاقتراب منه .. ولكن الشيطان لايفتأ يوسوس فى صدور الناس .. ولذلك تنبغى اليقظة دائما ..
وكنا بعد أن نكيل الغلة فى آخر النهار .. نسوى « الهدار » ونعلمه .. حتى إذا سرق منه شىء فى ظلام الليل عرفنا ..
وكنت أنام قريبا من الغلة .. على حرام ومخدة .. وتحت رجلى بطانية .. ولم أكن استعملها إلا لأتقى بها الناموس ..
وكان عمار ينام قريبا منى وحولنا الفلاحون المشتغلون فى الجرن .. وكنت أنام فى معظم الليالى بمجرد أن أضع رأسى على المخدة لانى كنت أطمئن إلى حراسته ..
وذات صباح استيقظت مبكرا على صياح فلاحة قريبا منا .. وسمعتها تقول :
ــ الأولاد .. سرقوا البقرة .. ياعمار .. وكان دليلهم ابن عبد الصبور ..
ورد عليها عمار
ــ ابن عبد الصبور .. لا يأتى بالناس الغريبة إلى هنا .. ولا يسرق .. روحى ابحثى عن السارق ..
ــ هو الذى سرقها .. وباعوها .. وأخذوا الفلوس .. وبيروح بالفلوس عند « الغازية » فى النخيل ..
ــ روحى ياولية .. روحى .. ابحثى عن السارق الحقيقى .. فلا يوجد عندنا من يسرق ..
قال هذا عمار بغضب .. فذهبت المرأة ..
وفى الضحى وكنا جالسين فى الخص مر علينا ابن عبد الصبور .. فصاح فيه عمار ..
ــ انت ياولد .. يا حمدان ..
ــ نعم ...
ــ روح هات .. بقرة فطوم .. كما أخذتها .. وفى الظهر تكون البقرة هنا.. فى الظهر .. وإلا أنت عارف ما سيحدث لك ..
ــ أنا لم آخذ بقرا .. من أحد .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
ــ الأحسن لك ان تأتى بها .. وأنا منتظر ..
ــ أنا لم آخذ البقرة .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
واستمر يصيح هكذا .. ولم يرد عليه عمار ..
وقبل أن ينتصف النهار رأينا البقرة مقبلة وحدها بين الغيطان ..
* * *
وفى صباح يوم من أيام الاثنين بدأنا « ندخل » غلة الجرن الثانى .. وبعد أن انتهى الكيل .. سوينا الغلة الباقية وعلمناها كالعادة .. ولاحظت فى ندى الصباح بعد أن طلع النور ان هدار الغلة .. قد جرح وأخذ منه .. نصف أردب على الاقل .. لم احدث عمار .. بالذى حدث ولكننى لاحظت بعد ان دار دورتين حول أكوام الغلال كعادته .. ان سحنته قد تقلصت .. ولم يحدثنى بشىء .. ولكنه ظل طول النهار ..متجهما على غير عادته .. وكان يقلقه ان يلاحظ الكيال .. والفلاحين الذين يشيلون الزكائب .. فتضيع هيبته فى الجزيرة ويسرى الخبر حتى يصل إلى القرية ..
* * *
وفى الليل .. لما جلسنا على الجرن قريبا من الغلة لاحظت انه لايزال مشغولا بما حدث .. وأخذنا نشرب الشاى ونتحدث ولف لنفسه سيجارة .. وأخذ يدخن ..
ومر بنا فى الطريق الزراعى ثلاثة عساكر على الخيل .. وكانوا يسرعون ..
فسألت عمار ..
ــ هل حدث شىء فى الجزيرة ..؟
ــ ابن عبد الموجود .. ضربه أحد الصيادين بالنار ..
ــ وقتل ..؟
ــ لا .. جرح .. فقط ..
ــ ومن المعتدى ..؟
ــ الفلاح .. طبعا .. إن الصيادين مساكين يسعون لرزقهم .. ويتعرضون فى الليل .. للأمواج والبرد .. والرياح الهوج .. ولكن الفلاح لايرحمهم .. عندما يراهم يجرون الشباك على الشاطىء .. يريد أن ينتزع منهم رزقهم بالقوة فى لحظة .. الرزق الذى سعوا له طول الليل .. وهنا يحدث الصراع ..
ــ وهل هم هنا مسلحون دائما ..
ــ أبدا .. ان الفلاحين .. هم الذين علموهم هذا أخيرا ..
ــ إن الذى بيده السلاح .. من السهل عليه أن يطلق النار .. وأن يقتل ..
ــ وهذا ما يحدث فعلا .. مع الأسف يابنى ..
ــ وهل تأسف على القتل يا عم عمار ..؟
ــ بالطبع يا بنى ..
ــ ما أكثر الذين قتلتهم .. فى حياتك ..
ــ أنا .. من الذى حدثك بهذا يا بنى ..
ــ الفلاحون ..
ــ أنهم كاذبون .. وينسجون الحكايات من الأوهام ..
ــ ألم تقتل أحدا .. وأنت رجل الليل ..
ــ أبدا .. يا فتحى افندى .. ابدا .. أيخلق اللّه الإنسان لنقتله .. إن هذا لا يمكن أن يحدث .. ان اللّه الذى خلقه وهو الذى يميته ..
ــ وفى الليل .. ألم تضطر إلى اطلاق النار ..
ــ كثيرا ... ولكن للإرهاب فقط .. الذين كنا نسرقهم .. كنا نرهبهم فقط .. كنا نسرق المواشى .. وكنا نسطو على السرايات .. ونسرق الخزن .. كان الأغنياء يودعون كل نقودهم فى بيوتهم .. لم يكونوا يضعونها فى البنوك كما نرى الآن .. ومرة دخلنا على رجل غنى فى حجرة نومه .. وكان مفتاح الخزانة تحت المخدة .. فقبض عليه فى يده واستمات فيه .. وكنت أستطيع أن أقتله .. وأن آخذ منه المفتاح .. ولكننى أمرت الرجال بتركه .. وخرجنا دون سرقة .. لأنى أعرف أن القتل جريمة لا تغتفر ..
ــ ولكن فى حياتك الطويلة .. ألم يحدث مرة أن أطلقت النار وقتلت شخصا .. ولو عن غير قصد ..
ــ أبدا .. يافتحى أفندى .. إن البندقية فى يدى .. لأحمى بها نفسى ..
ولكن حدث لى حادث رهيب منذ سنوات .. وسأحدثك عنه .. وما حدثت به إنسانا سواك ..
وتجهم وجهه قليلا ..
وقال وهو يرسل الدخان الأزرق فيتلوى فوق رأسينا فى الريح الساكن ..
ــ حدث فى سنة 1919 .. وكانت الثورة قد انطلقت فى كل مكان مرة واحدة من الإسكندرية إلى أسوان .. كنا نحارب الانجليز عند قرية الوليدية .. وكنا وراء الأحجار .. التى كانت معدة لتدعيم خزان أسيوط وأخذنا نصليهم بالنار كانوا على مبعدة أمتار منا فقط وكانت حالتهم فى غاية السوء ..
كنا قد حاصرناهم عند الخزان وفى المدرسة الثانوية .. سبعة أيام كاملة وعلى وشك أن نبيدهم جميعا وقد قطعنا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد ومن كل طريق وفعلنا كل ما يفعله القائد المدرب فى الحرب مع أنه لم تكن لنا قيادة على الإطلاق .. ولكنا كنا نحارب بفراسة الرجال الشجعان ..
وكان رفيقى فى الموقع زيدان وكان أحسن رجل فى ضرب النار .. وكان من البراعة فى التصويب بحيث أذهل كل من حولنا ..
وفى أثناء انتصارنا الباهر .. ظهرت طائرة للأعداء فوق رءوسنا كانت قادمة من القاهرة .. ولم نكن نعرف شيئا عن الطائرات .. وأخذت تلقى القنابل فتغير الموقف .. وذعر الفلاحون وطاروا على وجوههم ...
وجريت وأمامى زيدان على الرمال بين النخيل .. ثم غاب عنى ولم أكن أعرف أين ذهب .. ثم بصرت به وأنا أمشى .. مكوما تحت شجرة .. وكانت القنبلة قد مزقت جسمه ولكن بقيت فيه الروح ..
وحملته وسرت به طويلا فى الظلام .. والدم يلطخ وجهى وثيابى .. وكان الدم قد أعمى عينيه .. ثم وجدته يتعذب .. ووجدت نفسى أكثر عذابا منه ولا أدرى من أين جاءنى الخاطر الرهيب لأتخلص منه .. فقد وجدت ما بقى من جسمه مسخا مشوها .. لا يجعل منه رجلا على الإطلاق .. وقدرت انه سيعيش ساعات .. ربما بقى إلى الصباح .. وربما يموت قبل ذلك .. ولكنه سيتعذب عذابا كبيرا فى أثناء هذه المدة .. عذابا لا يحتمله إنسان .. فلماذا لا أريحه من هذا العذاب .. مادام أنه سيموت حتما .. ولماذا أجعل أهله يرونه على هذه الصورة البشعة .. وألقيته .. على الأرض .. وبعدت عنه ثم استدرت إليه وأطلقت عليه طلقه واحدة وأنا أغلق عينى .. وسرت فى طريقى ..
وبعد أن تركته كنت أتصور أننى استرحت منه ومن العذاب إلى الأبد .. ولكن لما رجعت إلى البيت .. ووضعت رأسى على الحرام نهشت رأسى الافكار المدمرة .. وأدركت أن العذاب بدأ من هذه الساعة ..
وقلت لماذا قتلت زيدان .. وهو شاب فى ريعان شبابه ربما أمده الشباب بالقوة وعاش .. من يدرى .. لماذا أنهيت حياته فى غير الساعة التى أرادها اللّه ... أيخلقه اللّه لنميته نحن ..
وظللت فى عذاب مدمر .. ثلاثة أسابيع كاملة وكان وجهى أسود .. وسحنتى سحنة مجنون .. ولم يعرف أحد من أهلى ... ما جرى .. لم يعرف أحد سرى .. وكنت قلقا ملتاعا .. ووجدت أخيرا ما يشغلنى عن هذا العذاب .. خرجت فى الليل لأسطو ... على العزب .. واستغرقنى هذا العمل ووجدت اسمى يدوى كرجل رهيب .. ولولا أن جدك عبد المنعم أعادنى إلى صوابى .. وجعلنى حارسا على أجرانكم .. لعشت فى الضلال إلى الموت ..
صمت عمار .. وأخذ يدخن .. وبدت خيوط من الظلال الكثيفة تزحف علينا ..
وقد عجبت لما فى النفوس البشرية من أسرار ...
وغلبنى النعاس فنمت ..
* * *
وفى الصباح .. رأيت أن الغلة .. قد سرقت أيضا ورأيت فى عينى عمار أنه يعرف أن الغلة جرحت .. فصمت وتألمت لحاله .. وأنا أرى الرجل يكتم غيظا لا حد له ..
* * *
وسهرت ذات ليلة .. وأنا أتناوم .. لأحاول أن أكتشف السارق .. ثم غلبنى النعاس .. ولما فتحت عينى .. وجدت .. عمار .. يصوب بندقيته .. ولمحت شيئا فى الظلام يجرى سريعا ودخل الذرة .. فأطلق وراءه عمار طلقة واحدة ..
ولما أسرعنا إلى هناك لنعرف السارق .. ذهلنا لما أصبحنا على قيد خطوة منه .. فقد كان خليفة ابنه .. وكان ملقى على وجهه وبجانبه الزكيبة وقد سالت منها حبات من القمح على الأرض .. وكان قد أصيب فى مقتل ..
وظل عمار فى مكانه مفتوح العينين .. وقد تجسمت ملامحه من هول الموقف ووجوه الفلاحين أشد ذهولا منه ... وما نطق واحد منا بكلمة .. أصبنا جميعا بالخرس الحقيقى ..
وأحسست بشىء ثقيل يجذبنى ويشدنى إلى الأرض .. ولكننى تماسكت ووقفت ساهما .. وقد تغشت عيناى ..
وسقط رأس عمار .. ثم أخذ يحملق فى بنظرة كئيبة .. وقد خرس لسانه .. ولا أدرى هل مرت عليه السنون فى هذه اللحظة .. وتذكر الرجل الذى صرعه هناك بين النخيل .. فقد بدا فى عينيه شعاع الفزع الذى يعتصر الإنسان حين يواجه ما قدر له .. ثم ما لبث الشعاع أن انطفأ .. وعاد يدير فينا عينين مظلمتين ..
وكان ضوء القمر قد بدأ ينتشر خلفنا هناك .. فى شاطىء النهر فلمحت امرأة أعرفها .. لمحت ناعسة على رأسها صرة .. وأمامها دابة تحمل زكيبة كبيرة وغلامان صغيران ... وخلف هذا ثلاث عنزات .. وكانوا قد تركوا النخيل وأخذوا يسرعون فى طريق المعدية ..
ونظرت إليها لحظات ثم رددت بصرى إلى القتيل الراقد هناك ..
وعجبت لتصاريف القدر وما يعده للإنسان ... فى أشد لحظات أمنه ..
وكان عمار لم يغير مكانه .. ولكن كان قد ترك البندقية من يده .. ونظر شاردا إلى هناك فلا أدرى هل رآها وهى تمضى وراء قطيعها ام لا .. ولكنه على اى حال لم يتحرك .. ظل فى مكانه ينظر الينا بعينين تائهتين ..
وكانت البندقية لاتزال ملقاة بجانبه .. وما أمسك بها بعد ذلك ابدا .. فقد كانت هذه هى الطلقة الاخيرة ..
=================================
نشرت فى صحيفة المساء 2/10/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من الصعيد " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================
الأحد، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٦
الطلقة الأخيرة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
قطار الساعة 8 ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
قطار الســـاعة 8
قصة محمود البدوى
وصلت هدى إلى رصيف المحطة قبل أن يتحرك القطار بأربع دقائق .. وكانت تهرول .. وزوجها يسرع الخطا أمامها ويبحث لها من نوافذ العربات عن مكان فى الدرجة الثانية ..
ودخلا فى جوف عربة من العربات الخلفية .. وهما لايستطيعان معرفة طريقهما .. فقد كانت الدواوين كلها مغلقة ومظلمة لم تكن هناك إضاءة اطلاقا فى الممرات .. ووجد الديوان المخصص للسيدات مشغولا .. وممتلئا إلى السقف بالحقائب والقفف .. وما يجاوزه من الدواوين قد امتلأ بالركاب ..
وأخيرا عثر على سيدة جالسة فى ركن من أحد الدواوين .. وكان هناك رجل يجلس أمامها فى الركن المقابل ..
فقال عصام بسرعة لزوجته ..
ـ اجلسى هنا مع الست ..
فجلست هدى فى الحال .. فقد تقطعت أنفاسها وهى تجرى وحيرها الظلام الذى وجدته فى القطار ..
ومن خلال الضوء المنبعث من خارج القطار .. هيأت لنفسها مكانا بجانب النافذة الغربية مباشرة .. وجعلت حقيبتها على الرف المقابل أمام بصرها مباشرة لأن فيها عدا ما تتحلى به من الجواهر كل ما تملكه من الحلى كعروس ..
وقالت لزوجها :
ـ أنزل أنت .. الجرس ضرب .. من بدرى ..
فسلم عليها وهو يقول ..
ـ عندما تصلى .. ابعثى لى برقية .. وطمنينى على الحالة .. إن شاء الله ستجدينها بخير ..
ـ إن شاء الله انزل .. القطر تحرك ..
ووجدت الدموع تتحير فى عينيها بعد أن تركها زوجها وحمدت الله أن الظلام أخفى عبراتها عن الجالسين معها ..
وكانت هذه الحالة قد لازمتها منذ وصلتها البرقية فى الغروب تنبئها بأن والدتها مريضة وفى حالة خطرة .. فمن هذه الساعة وهى لاتكاد تمسك عبراتها .. وبعد أن نزل زوجها على الرصيف .. وتحرك القطار وخرج من نطاق المحطة .. ظلت تبكى وتطلق العنان لكل عواطفها المحبوسة ولم تكن تدرى .. أتبكى على فراق زوجها .. ولأنها اضطرت لأن تسافر وحدها .. لأول مرة منذ تزوجها .. أم لأنها كانت تتوقع الفاجعة هناك فى البلد .. وتجد الصراخ قد انطلق من جنبات المنـزل ..
وقد منعتها العبرات من أن تنظر إلى من يجلس معها فى الديوان .. وأخيرا مسحت عينيها .. ووجدت نفسها قد استراحت بعد البكاء .. وأحست بالهدوء وبالاستعداد لتلقى النبأ الذى كان منذ لحظات يفزعها ونظرت إلى السيدة التى بجوارها .. فوجدتها تنظر إليها فى حنان وخجلت من أن تكون قد بصرت بها وهى تبكى وأخذت السيدتان تتبادلان الحديث .. فى الوقت الذى ظهر فيه النور فى سقف الديوان .. وظهرت الكراسى الجلدية القديمة القذرة .. والغبار على زجاج النوافذ .. وفى أرض العربة .. وكانت المصابيح الثلاث الصغيرة ترسل نورا خافتا لايستطيع المرء معه أن يقرأ رقم تذكرة السفر ..
ولكن هدى استطاعت فى هذه اللحظة أن تتبين وجه جارتها .. وكانت سيدة فى الأربعين من عمرها .. سمراء .. وترتدى معطفا أسود .. كما استطاعت أن تحدد ملامح الرجل الجالس أمامها من الناحية الأخرى فى الديوان نفسه وكان طويل الوجه ذا شارب قصير وعينين خضراوين .. ويبدو من جلسته أنه متوسط الطول ولم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره .. وكان يضع على رجليه بطانية طواها عند صدره ..
وكانت السيجارة لاتفارق فمه .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه فى هذا المكان الضيق وتستقران أخيرا عليها .. وخيل إلى هدى أنهما تنفذان من خلال ثوبها ولذلك ضمت معطفها على عنقها وغـطت الجـواهر التى فى صدرها وضمت ساقيها وجلست منكمشة ..
وبعد أن ترك القطار مدينة الجيزة .. عاد الظلام مرة أخرى إلى العربة وانطفأت المصابيح التى كانت مضيئة فى السقف .. وخيم ظلام دامس .. وتبادلت السيدتان الابتسام .. وكان الرجل صامتا .. ولا يحول وجهه فى الظلام عنهما ..
وليس من طبيعة المرأة الصمت ولكن وجود الرجل معهما فى مكان واحد وفى هذا الحيز الضيق جعل حديثهما قليلا ومقيدا .. وليس فيه اللذة التى تجدها الأنثى وهى تحادث أختها منطلقة من كل القيود ..
وكان باب الديوان الزجاجى مغلقا على الدوام .. لأن البرد كان شديدا فى الخارج .. والتراب كان ينفذ من خلال الفتحات ويخز الوجوه كالإبر ..
وكانت هدى تنظر دائما إلى ممر العربة من خلال النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة للباب ..
فتح الكمسارى الباب وفى يده مصباح بالبطارية .. ونظر فى التذاكر ثم خرقها .. وأغلق وراءه الباب .. وذهب .. ورأت هدى وراءه رجلا آخر ثم عسكريا ببدلة صفراء .. وبيده بندقية ..
وبعد أن مر هؤلاء جميعا .. إلى العربة الملاصقة .. ظهر رجل فى الطرقة يلبس جلبابا لم تميز خطوطه ويضع على رأسه لبدة ونظر من خلال الزجاج إلى جوف الديوان ثم تابع طريقه ..
وكانت السيدة الجالسة بجوارها قد أغلقت عينيها ونامت .. وبدا لهدى أن السيدة صائمة مثلها فلما امتلأت معدتها بالطعام أحست بالحاجة إلى النوم .. كمعظم الصائمين .. وكانت هدى تود أن تنام مثلها .. ولكنها كانت قلقة والخواطر السوداء تعصف برأسها .. وأسفت لأنها طاوعت زوجها وحملت نفسها كل حليهــا .. وجواهرهــا وهى مسافرة وحدها ..
وكانت نظرتها دائما تحط على الرجل .. الجالس فى مكانه دون حركة والذى كان لايحول عينيه عنها إلا قليلا .. وكانت حركة القطار الرتيبة ودوى العجلات تحتها .. والظلام المخيم .. تساعدها على الاسترخاء .. وترك كل الخواطر التى فى رأسها .. ولكنها كانت تشد هذه الخواطر إلى بؤرة شعورها وتدور بها كالنحلة ..
وكان عدم تعودها على السفر وحدها .. جعلها أكثر قلقا .. ولم تكن تدرى .. لماذا نظرها دواما يتركز على الممر ..
ورأت الرجل اللابس الجلباب واللبدة يمر .. مرة أخرى بعد أن نظر من خلال الزجاج إلى الداخل وتبعه بعد قليل العسكرى ببندقيته ثم الكمسارى دون أن يدخل عليهم هذه المرة .. ثم شخص أو شخصان .. كانا يمرقان فى الظلام كالجرذان المذعورة قبل أن تتوضح هدى وجهيهما ..
وصحت السيدة التى بجوارها .. والقطار يهدىء ويدخل المحطة .. وقالت ..
ـ الواسطى ..؟
ـ أظن ..
ـ الظلام .. يمنعنا من الرؤية ..
ـ لماذا يتركون العربات هكذا .. فى مثل هذه الكآبة ..؟
ـ أنا لا أحب أن أسافر فى الليل .. فى قطارات الصعيد .. ولكننى اضطررت هذه المرة بالرغم عنى إلى السفر ليلا ..
ـ وأنا مثلك يا سيدتى .. من الســيدة التى تسافر فى الليل وحدها ..؟ إلا أن تكون مضطرة ..
وارتجفت هدى .. ونظرت إلى الرجل وكان صامتا .. لايحب أن يخوض معهما فى الحديث .. وزادها هذا توجسا منه ..
وعاد الصمت يخيم مرة أخرى ..
وانطلق القطار بأقصى سرعته يطوى المدن والقرى طيا ويشق قلب الليل ثم أخذ يخفف من سرعته وهنا أخذت السيدة الجالسة بجوار هدى تستعد للنزول فسألتها هدى وقد شعرت بالخطر يقترب منها ..
ـ حضرتك .. نازله فى بنى سويف ..؟
ـ نعم ..
ـ مع السلامة ..
ـ الله يسلمك .. وأنت ..
ـ رايحه ملوى ..
ـ كلها ساعتين ..
ـ أجل ..
واغتصبت هدى ابتسامة شاحبة .. أخفت بها انفعالها وارتجاف قلبها وبعد أن نزلت السيدة .. وتحرك القطار من المحطة .. كانت هدى تود أن تبحث عن مكان فى ديوان السيدات ولكنها وجدت نفسها لاتستطيع أن تتحرك وظلت فى مكانها .. تنظر إلى الرجل الجالس معها فى الظلام والرجل ينظر إليها فى صمت ..
ورأت أخيرا .. ألا تظهر أمامه بمظهر الضعيفة أو الخائفة منه لأن ذلك سيشجعه على المغامرة والطمع فيها .. ولكن غريزتها كانت تجعلها تخاف .. بعد أن أصبحت معه وحيدة فى مكان صغير ضيق والباب مغلق عليهما .. والنوافذ الخشبية مسدلة .. والإضاءة لا وجود لها فى الديوان أو فى الممر .. وانقطعت الأرجل التى كانت تعبر فى الظلام .. كالخفافيش .. وبدا لها أن من بقى من الركاب فى القطار قد نام .. لأنها ظلت ترقب كل حركة فى الممر وتتسمع كل حس .. ولكنها لم تر شخصا يمر .. أو ينفذ إلى العربة الملاصقة ..
وظهر العسكرى .. ببندقيته وكان المتوقع أن يجعلها هذا تطمئن وتشعر بالأمان ولكن شكله أفزعها .. كان يخيفها أكثر من الرجل الجالس معها .. لأنه بدا لها جلفا .. وعلى وجهه الغباء المجسم ..
***
ونظرت للمرة الخمسين إلى الرجل الجالس أمامها .. وكان يدخن وعيناه المتقدتان تنفذان من خلال ثوبها .. وكان صاحيا طول الوقت وغاظها أنه كان هادئا ممتلكا زمام أعصابه .. وقد جعلها هذا الهدوء العجيب ترتجف أكثر وأكثر .. وحدق فيها نصف دقيقة كاملة .. ثم رأته يدفع بيده البطانية .. عن صدره .. وتصورت أنه سينقض عليها .. ويطوقها وربما مزق ملابسها .. وكانت فى هذه اللحظة تود أن تصرخ .. ولكنها وجدت صوتها لايطاوعها وأغلقت عينيها تنتظر الشىء المقدر .. ولما فتحتهما وجدت الرجل لايزال فى مكانه ..
فنظرت إليه سادرة وفمها مفتوح .. ثم أغلقت عينيها مرة أخرى وكانت تود أن تبكى ..
وراحت تسترجع فى ذاكرتها حوادث القطارات .. فلم تجد .. من بينها حادثة اغتصاب واحدة .. ولكنها تذكرت حوادث قرأتها فى الصحف عن أجسام تمزق بالسكاكين ثم تلقى تحت العجلات خلسة فى ظلام الليل ليتوهم الناس أن الذى مزقها هو القطار .. وعن نساء تخنق فى الظلام .. ثم توضع فى جوال وتلقى فى داخل القطار كما يلقى العفش .. وفى خلال دوامة أفكارها .. تذكرت حادثة شاب هجم على سيدة ليلا فى قطار المترو فارتجفت وهى تتذكر هذه الحادثة وعادت تنظر إلى الرجل .. وتفكر فى الطريقة التى ستعالج بها الموقف هل تسمح له بأن يقبلها .. ثم تخنقه فى أثناء هذه اللحظة وهل تستطيع خنقه حقا ..؟ انها ساذجة .. الأحسن أن تسمح له بالقبلة وبأن يعريها من ثوبها وفى لحظة انشغاله بهذا ستنقض عليـــه كالنـمرة .. بأسنانها وأظافرها وتمزق جسمه ..
لا .. إنه أقوى منها وسيتغلب عليها أخيرا ..
والأحسن من هذا كله أن تصرخ .. ولا بد أن يسمعها أحد الركاب ويأتى لنجدتها ..
وجف ريقها فى خلال هذه الخواطر .. وكف قلبها عن الخفقان ثم عاد يخفق ..
ومن العجب أن خواطرها تركزت كلها فى الخوف على عفافها ونفسها ولم ينصرف قط إلى الجواهر التى تحملها .. مع أنها كانت فى أول الأمر تخشى على الجواهر أن تسرق ..
وكان الرجل الجالس معها فى مكانه لم يغيره .. كان يدخن فى هدوء ..
انه يعد نفسه للحظة الحاسمة ..
أما هى فستقاوم .. وتقاوم .. إلى آخر نفس ..
وقبل أن يدخل القطار فى محطة المنيا .. ظهر الرجل اللابس الجلباب واللبدة مرة أخرى فى الطرقة .. ووقف بجوار باب الديوان .. ونظر من النافذة إلى الداخل .. ثم فتح باب الديوان .. وتناول حقيبة من فوق الرف .. وأنزلها ووضعها فى الممر .. وظل فى مكانه ينظر من نافذة القطار الزجاجية إلى حدود المدينة ..
ولما دخل القطار المحطة .. وتوقف .. رأته يحادث شابين آخرين كانا ينتظران على الرصيف ويلبسان الملابس البلدية .. وكان يقف معهما رجل يلبس بدلة أنيقة ..
ودخل الشابان إلى جوف العربة ..
ورأت هدى الشابين ينحنيان على الرجل الجالس معها فى العربة .. ويحملانه إلى الخارج ..
وسقطت البطانية من فوق رجليه .. فى هذه اللحظة نظرت هدى إلى ساقيه المتدليتين دون حركة كشىء ميت .. واحمر وجهها ..
وعندما خرجوا بالرجل من القطار .. فهمت الشىء الذى لم تكن تقدره أو تتوقعه أبدا .. وآلمها أنها لم تعرف حالته طول الوقت .. ولم تعاون عجزه عن الحركة بأية مساعدة قليلة منها ..
ومسحت عبراتها مرة أخرى ..
=================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية فى 451959 وأعيد نشرها بمجموعة زوجة الصياد 1961لمحمود البدوى
قصة محمود البدوى
وصلت هدى إلى رصيف المحطة قبل أن يتحرك القطار بأربع دقائق .. وكانت تهرول .. وزوجها يسرع الخطا أمامها ويبحث لها من نوافذ العربات عن مكان فى الدرجة الثانية ..
ودخلا فى جوف عربة من العربات الخلفية .. وهما لايستطيعان معرفة طريقهما .. فقد كانت الدواوين كلها مغلقة ومظلمة لم تكن هناك إضاءة اطلاقا فى الممرات .. ووجد الديوان المخصص للسيدات مشغولا .. وممتلئا إلى السقف بالحقائب والقفف .. وما يجاوزه من الدواوين قد امتلأ بالركاب ..
وأخيرا عثر على سيدة جالسة فى ركن من أحد الدواوين .. وكان هناك رجل يجلس أمامها فى الركن المقابل ..
فقال عصام بسرعة لزوجته ..
ـ اجلسى هنا مع الست ..
فجلست هدى فى الحال .. فقد تقطعت أنفاسها وهى تجرى وحيرها الظلام الذى وجدته فى القطار ..
ومن خلال الضوء المنبعث من خارج القطار .. هيأت لنفسها مكانا بجانب النافذة الغربية مباشرة .. وجعلت حقيبتها على الرف المقابل أمام بصرها مباشرة لأن فيها عدا ما تتحلى به من الجواهر كل ما تملكه من الحلى كعروس ..
وقالت لزوجها :
ـ أنزل أنت .. الجرس ضرب .. من بدرى ..
فسلم عليها وهو يقول ..
ـ عندما تصلى .. ابعثى لى برقية .. وطمنينى على الحالة .. إن شاء الله ستجدينها بخير ..
ـ إن شاء الله انزل .. القطر تحرك ..
ووجدت الدموع تتحير فى عينيها بعد أن تركها زوجها وحمدت الله أن الظلام أخفى عبراتها عن الجالسين معها ..
وكانت هذه الحالة قد لازمتها منذ وصلتها البرقية فى الغروب تنبئها بأن والدتها مريضة وفى حالة خطرة .. فمن هذه الساعة وهى لاتكاد تمسك عبراتها .. وبعد أن نزل زوجها على الرصيف .. وتحرك القطار وخرج من نطاق المحطة .. ظلت تبكى وتطلق العنان لكل عواطفها المحبوسة ولم تكن تدرى .. أتبكى على فراق زوجها .. ولأنها اضطرت لأن تسافر وحدها .. لأول مرة منذ تزوجها .. أم لأنها كانت تتوقع الفاجعة هناك فى البلد .. وتجد الصراخ قد انطلق من جنبات المنـزل ..
وقد منعتها العبرات من أن تنظر إلى من يجلس معها فى الديوان .. وأخيرا مسحت عينيها .. ووجدت نفسها قد استراحت بعد البكاء .. وأحست بالهدوء وبالاستعداد لتلقى النبأ الذى كان منذ لحظات يفزعها ونظرت إلى السيدة التى بجوارها .. فوجدتها تنظر إليها فى حنان وخجلت من أن تكون قد بصرت بها وهى تبكى وأخذت السيدتان تتبادلان الحديث .. فى الوقت الذى ظهر فيه النور فى سقف الديوان .. وظهرت الكراسى الجلدية القديمة القذرة .. والغبار على زجاج النوافذ .. وفى أرض العربة .. وكانت المصابيح الثلاث الصغيرة ترسل نورا خافتا لايستطيع المرء معه أن يقرأ رقم تذكرة السفر ..
ولكن هدى استطاعت فى هذه اللحظة أن تتبين وجه جارتها .. وكانت سيدة فى الأربعين من عمرها .. سمراء .. وترتدى معطفا أسود .. كما استطاعت أن تحدد ملامح الرجل الجالس أمامها من الناحية الأخرى فى الديوان نفسه وكان طويل الوجه ذا شارب قصير وعينين خضراوين .. ويبدو من جلسته أنه متوسط الطول ولم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره .. وكان يضع على رجليه بطانية طواها عند صدره ..
وكانت السيجارة لاتفارق فمه .. وعيناه تتحركان فى كل اتجاه فى هذا المكان الضيق وتستقران أخيرا عليها .. وخيل إلى هدى أنهما تنفذان من خلال ثوبها ولذلك ضمت معطفها على عنقها وغـطت الجـواهر التى فى صدرها وضمت ساقيها وجلست منكمشة ..
وبعد أن ترك القطار مدينة الجيزة .. عاد الظلام مرة أخرى إلى العربة وانطفأت المصابيح التى كانت مضيئة فى السقف .. وخيم ظلام دامس .. وتبادلت السيدتان الابتسام .. وكان الرجل صامتا .. ولا يحول وجهه فى الظلام عنهما ..
وليس من طبيعة المرأة الصمت ولكن وجود الرجل معهما فى مكان واحد وفى هذا الحيز الضيق جعل حديثهما قليلا ومقيدا .. وليس فيه اللذة التى تجدها الأنثى وهى تحادث أختها منطلقة من كل القيود ..
وكان باب الديوان الزجاجى مغلقا على الدوام .. لأن البرد كان شديدا فى الخارج .. والتراب كان ينفذ من خلال الفتحات ويخز الوجوه كالإبر ..
وكانت هدى تنظر دائما إلى ممر العربة من خلال النافذة الزجاجية الصغيرة الملاصقة للباب ..
فتح الكمسارى الباب وفى يده مصباح بالبطارية .. ونظر فى التذاكر ثم خرقها .. وأغلق وراءه الباب .. وذهب .. ورأت هدى وراءه رجلا آخر ثم عسكريا ببدلة صفراء .. وبيده بندقية ..
وبعد أن مر هؤلاء جميعا .. إلى العربة الملاصقة .. ظهر رجل فى الطرقة يلبس جلبابا لم تميز خطوطه ويضع على رأسه لبدة ونظر من خلال الزجاج إلى جوف الديوان ثم تابع طريقه ..
وكانت السيدة الجالسة بجوارها قد أغلقت عينيها ونامت .. وبدا لهدى أن السيدة صائمة مثلها فلما امتلأت معدتها بالطعام أحست بالحاجة إلى النوم .. كمعظم الصائمين .. وكانت هدى تود أن تنام مثلها .. ولكنها كانت قلقة والخواطر السوداء تعصف برأسها .. وأسفت لأنها طاوعت زوجها وحملت نفسها كل حليهــا .. وجواهرهــا وهى مسافرة وحدها ..
وكانت نظرتها دائما تحط على الرجل .. الجالس فى مكانه دون حركة والذى كان لايحول عينيه عنها إلا قليلا .. وكانت حركة القطار الرتيبة ودوى العجلات تحتها .. والظلام المخيم .. تساعدها على الاسترخاء .. وترك كل الخواطر التى فى رأسها .. ولكنها كانت تشد هذه الخواطر إلى بؤرة شعورها وتدور بها كالنحلة ..
وكان عدم تعودها على السفر وحدها .. جعلها أكثر قلقا .. ولم تكن تدرى .. لماذا نظرها دواما يتركز على الممر ..
ورأت الرجل اللابس الجلباب واللبدة يمر .. مرة أخرى بعد أن نظر من خلال الزجاج إلى الداخل وتبعه بعد قليل العسكرى ببندقيته ثم الكمسارى دون أن يدخل عليهم هذه المرة .. ثم شخص أو شخصان .. كانا يمرقان فى الظلام كالجرذان المذعورة قبل أن تتوضح هدى وجهيهما ..
وصحت السيدة التى بجوارها .. والقطار يهدىء ويدخل المحطة .. وقالت ..
ـ الواسطى ..؟
ـ أظن ..
ـ الظلام .. يمنعنا من الرؤية ..
ـ لماذا يتركون العربات هكذا .. فى مثل هذه الكآبة ..؟
ـ أنا لا أحب أن أسافر فى الليل .. فى قطارات الصعيد .. ولكننى اضطررت هذه المرة بالرغم عنى إلى السفر ليلا ..
ـ وأنا مثلك يا سيدتى .. من الســيدة التى تسافر فى الليل وحدها ..؟ إلا أن تكون مضطرة ..
وارتجفت هدى .. ونظرت إلى الرجل وكان صامتا .. لايحب أن يخوض معهما فى الحديث .. وزادها هذا توجسا منه ..
وعاد الصمت يخيم مرة أخرى ..
وانطلق القطار بأقصى سرعته يطوى المدن والقرى طيا ويشق قلب الليل ثم أخذ يخفف من سرعته وهنا أخذت السيدة الجالسة بجوار هدى تستعد للنزول فسألتها هدى وقد شعرت بالخطر يقترب منها ..
ـ حضرتك .. نازله فى بنى سويف ..؟
ـ نعم ..
ـ مع السلامة ..
ـ الله يسلمك .. وأنت ..
ـ رايحه ملوى ..
ـ كلها ساعتين ..
ـ أجل ..
واغتصبت هدى ابتسامة شاحبة .. أخفت بها انفعالها وارتجاف قلبها وبعد أن نزلت السيدة .. وتحرك القطار من المحطة .. كانت هدى تود أن تبحث عن مكان فى ديوان السيدات ولكنها وجدت نفسها لاتستطيع أن تتحرك وظلت فى مكانها .. تنظر إلى الرجل الجالس معها فى الظلام والرجل ينظر إليها فى صمت ..
ورأت أخيرا .. ألا تظهر أمامه بمظهر الضعيفة أو الخائفة منه لأن ذلك سيشجعه على المغامرة والطمع فيها .. ولكن غريزتها كانت تجعلها تخاف .. بعد أن أصبحت معه وحيدة فى مكان صغير ضيق والباب مغلق عليهما .. والنوافذ الخشبية مسدلة .. والإضاءة لا وجود لها فى الديوان أو فى الممر .. وانقطعت الأرجل التى كانت تعبر فى الظلام .. كالخفافيش .. وبدا لها أن من بقى من الركاب فى القطار قد نام .. لأنها ظلت ترقب كل حركة فى الممر وتتسمع كل حس .. ولكنها لم تر شخصا يمر .. أو ينفذ إلى العربة الملاصقة ..
وظهر العسكرى .. ببندقيته وكان المتوقع أن يجعلها هذا تطمئن وتشعر بالأمان ولكن شكله أفزعها .. كان يخيفها أكثر من الرجل الجالس معها .. لأنه بدا لها جلفا .. وعلى وجهه الغباء المجسم ..
***
ونظرت للمرة الخمسين إلى الرجل الجالس أمامها .. وكان يدخن وعيناه المتقدتان تنفذان من خلال ثوبها .. وكان صاحيا طول الوقت وغاظها أنه كان هادئا ممتلكا زمام أعصابه .. وقد جعلها هذا الهدوء العجيب ترتجف أكثر وأكثر .. وحدق فيها نصف دقيقة كاملة .. ثم رأته يدفع بيده البطانية .. عن صدره .. وتصورت أنه سينقض عليها .. ويطوقها وربما مزق ملابسها .. وكانت فى هذه اللحظة تود أن تصرخ .. ولكنها وجدت صوتها لايطاوعها وأغلقت عينيها تنتظر الشىء المقدر .. ولما فتحتهما وجدت الرجل لايزال فى مكانه ..
فنظرت إليه سادرة وفمها مفتوح .. ثم أغلقت عينيها مرة أخرى وكانت تود أن تبكى ..
وراحت تسترجع فى ذاكرتها حوادث القطارات .. فلم تجد .. من بينها حادثة اغتصاب واحدة .. ولكنها تذكرت حوادث قرأتها فى الصحف عن أجسام تمزق بالسكاكين ثم تلقى تحت العجلات خلسة فى ظلام الليل ليتوهم الناس أن الذى مزقها هو القطار .. وعن نساء تخنق فى الظلام .. ثم توضع فى جوال وتلقى فى داخل القطار كما يلقى العفش .. وفى خلال دوامة أفكارها .. تذكرت حادثة شاب هجم على سيدة ليلا فى قطار المترو فارتجفت وهى تتذكر هذه الحادثة وعادت تنظر إلى الرجل .. وتفكر فى الطريقة التى ستعالج بها الموقف هل تسمح له بأن يقبلها .. ثم تخنقه فى أثناء هذه اللحظة وهل تستطيع خنقه حقا ..؟ انها ساذجة .. الأحسن أن تسمح له بالقبلة وبأن يعريها من ثوبها وفى لحظة انشغاله بهذا ستنقض عليـــه كالنـمرة .. بأسنانها وأظافرها وتمزق جسمه ..
لا .. إنه أقوى منها وسيتغلب عليها أخيرا ..
والأحسن من هذا كله أن تصرخ .. ولا بد أن يسمعها أحد الركاب ويأتى لنجدتها ..
وجف ريقها فى خلال هذه الخواطر .. وكف قلبها عن الخفقان ثم عاد يخفق ..
ومن العجب أن خواطرها تركزت كلها فى الخوف على عفافها ونفسها ولم ينصرف قط إلى الجواهر التى تحملها .. مع أنها كانت فى أول الأمر تخشى على الجواهر أن تسرق ..
وكان الرجل الجالس معها فى مكانه لم يغيره .. كان يدخن فى هدوء ..
انه يعد نفسه للحظة الحاسمة ..
أما هى فستقاوم .. وتقاوم .. إلى آخر نفس ..
وقبل أن يدخل القطار فى محطة المنيا .. ظهر الرجل اللابس الجلباب واللبدة مرة أخرى فى الطرقة .. ووقف بجوار باب الديوان .. ونظر من النافذة إلى الداخل .. ثم فتح باب الديوان .. وتناول حقيبة من فوق الرف .. وأنزلها ووضعها فى الممر .. وظل فى مكانه ينظر من نافذة القطار الزجاجية إلى حدود المدينة ..
ولما دخل القطار المحطة .. وتوقف .. رأته يحادث شابين آخرين كانا ينتظران على الرصيف ويلبسان الملابس البلدية .. وكان يقف معهما رجل يلبس بدلة أنيقة ..
ودخل الشابان إلى جوف العربة ..
ورأت هدى الشابين ينحنيان على الرجل الجالس معها فى العربة .. ويحملانه إلى الخارج ..
وسقطت البطانية من فوق رجليه .. فى هذه اللحظة نظرت هدى إلى ساقيه المتدليتين دون حركة كشىء ميت .. واحمر وجهها ..
وعندما خرجوا بالرجل من القطار .. فهمت الشىء الذى لم تكن تقدره أو تتوقعه أبدا .. وآلمها أنها لم تعرف حالته طول الوقت .. ولم تعاون عجزه عن الحركة بأية مساعدة قليلة منها ..
ومسحت عبراتها مرة أخرى ..
=================================
نشرت بمجلة الجيل المصرية فى 451959 وأعيد نشرها بمجموعة زوجة الصياد 1961لمحمود البدوى
فى القرية ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
نشرت القصة فى مجموعة " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى سنة 1944
فى القرية
قصة محمود البدوى
كنا نستيقظ فى الساعة الخامسة صباحا .. حتى فى أشد أيام الشتاء برودة ، وأقساها زمهريرا ، ونتخذ طريقنا إلى الحقل متثاقلين ..
كنا خمسة عشر رجلا من قرى مختلفة ، جمعنا عمل واحد فى قلب الصعيد ، كنا من العمال الأجراء الذين يسعون فى الأرض طلبًا للرزق ، أينما وجدوا للعمل سبيلا ، وللرزق موطنا ..
كنا من هذه المخلوقات البشرية التى كتب عليها الشقاء الأبدى فى هذه الحياة الدنيا ، والذين ولدوا فى ليال لا يلوح فيها نجم ، ولا تبدو بارقة من سعود .. !
وكانت الأيام تمضى بنا من سىء إلى أسوأ ، ولكن على الرغم من ضنك العيش ، وشدة الفاقة ، وبلاء الأيام ، فقد كنا قانعين بنصيبنا من العيش ، وحظنا من الحياة ..
كان الواحد منا لا يحصل على أكثر من ثلاثة قروش فى اليوم ، نظير العمل اثنتى عشرة ساعة فى الحقل .. وكنا نعمل بين الشادوف ، وسقى الأرض وعزقها ، من فجر اليوم ، إلى مغرب الشمس ، وطعامنا لا يعدو الخبز الأسود والبصل، وما تنبت الأرض من بقل ، ومع ذلك لم نكن نشكو نصبا ، ولا مرضا .. وكنا نعمل تحت الشمس ، ونصلى نارها طول النهار ..
وكانت ساعات الظهيرة ، فى قلب الصيف ، هى شر ما يمر بنا من الساعات .. حين تشتد الهاجرة ، ويركد الجو ، ويلتهب قرص الشمس .. كنا فى تلك الساعة نشعر بضنى شديد وعذاب لا يطاق ..
كانت الأرض المتقدة تلهث كما يلهث الكلب المضروب ، وتزفر من عذاب السعير ، والشمس تحمى حتى يلتهب كل شىء ، وتتحول دقاق الحصى إلى جمرات من نار .. فإذا أصابت باطن القدم ، كوته بنارها وشققته ورسمت فيه أخاديد .. !
وويل للذين كانوا يعزقون الحقل فى تلك الساعة من النهار .. كانوا يختنقون بين عيدان الذرة ، ويجودون بأنفاسهم فى بطء وعذاب .. وكان الذين يعملون فى الشواديف ، أسعد من هؤلاء حالا ، وأخف حملا ، لأنهم أقرب إلى الماء ، وأجسامهم شبه عارية ، وهى إن كانت تتصبب عرقا ، ولكنها لا تحمل غبار الأرض وحرقة الرمضاء ..
وكان الذين يسقون الأرض يحسون بلظاها من تحتهم ، كلما جرت عليها المياه ، كانت تخرج أنفاسها الحارة الملتهبة ، فيزداد الجو وهجا وسعيرا ..
***
كان الجهد الذى نبذله فى الشادوف جبارًا ، وكان يجرى الدماء فى عروقنا ، ويصبب العرق من أجسامنا ، وكان هذا العمل الشاق تحت لفح الشمس ، فى جو طلق ، يفيد أجسامنا من حيث لا نحتسب ، ويعوضنا عن غذائنا الردىء ، وحياتنا الشقية .. فكنا نشعر بقوة سواعدنا وقوة عضلاتنا .. وكنا نرتدى أقمصة زرقاء قصيرة ، ونعرض أجسامنا لكل تقلبات الجو ، لنأمن عادية المرض ..
كنا نجرى على حكم الفطرة السليمة ، فلم نكن درسنا الطب ، ولا تعلمنا فك الخط ، ومع ذلك كان نظرنا إلى الأمور صائبا ، وإدراكنا صحيحا ، وإيماننا باللّه ليس بعده إيمان ..
ولم يكن هناك ما يكدر صفو عيشنا ، كنا نعمل متعاونين متساندين كأحسن رفقاء ، وكان أحد الرفقة حلو الصوت شجيه ، فكان يرفع عقيرته ويشدو .. وكنا نشدو وراءه فى صوت مؤثر يأخذ بالألباب ..
وكانت الشواديف على ثلاث درجات ، ويعمل فى كل قسم ثلاثة رجال ، فى كل درج رجل .. وكنا ثلاثة صفوف متراصة ، فكانت هذه الشواديف التسعة وهى دائرة فى وقت واحد ، كأنها النواعير الباكية فى البساتين ، كنا ننسى على وقع صوتها كل تعب وجهد ، ونزداد حماسة وقوة .. ونتسابق فى نقل المياه بالدلاء من درج إلى درج .. وكان الذى فى الصف الأول يتحمل ثقل العمل كله ولهذا كنا نتبادل هذا المكان ..
كنا عدولا بالفطرة ، لأننا كنا فقراء بؤساء ، ولم يكن هناك ما يحملنا على الطمع .. ! وكانت المراكب الشراعية التى تشق النيل بصدرها تمر تحت شواديفنا ، فكنا نلوح للملاحين فيها جذلين فرحين ، ونرفع صوتنا بالغناء والنشيد مثلهم .. وأطيب ما يكون الغناء ساعة الصبح ، وعند الغسق ، فى الساعة التى يسكن فيها كل شىء ويسجو ..
كانت الأيام تمضى رتيبة ، وكنا ننتقل من الحقل إلى القرية ، وننام فى منزل صغير اكتريناه بعرق جبيننا ، واختزنا فيه طعامنا .. ولقد كان المنزل أشبه بزريبة الحيوانات التى بجوارنا .. ومع هذا فقد رضينا بقسمتنا فى الحياة ، ونصيبنا من العيش ، وكنا سعداء .. !
***
كان بجوار الشادوف الذى أعمل فيه طريق صغير يفضى إلى ساحل النيل ، وكانت النسوة فى القرية يتخذنه طريقا لملء جرارهن من النيل فى فجر كل يوم وأصيله .. ولما كنا نعمل شبه عراة فى الشواديف ، فقد كانت نساء القرية يسدلن خمرهن على وجوهن كلما اقتربن منا ، ويتجنبن النظر إلى ناحيتنا ، ومع ذلك ، فقد كانت الحماسة تبلغ بنا أشدها عندما يردن الماء .. كان كل منا يحاول أن يسبق الآخر فى نزح المياه التى تحته ليظفر باعجابهن .. ! وكن أحيانا يرميننا بنظرات جانبية سريعة .. ولكنها كانت عطشى .. كانت أجسامنا العارية ، وعضلاتنا المفتولة تثير فيهن الإعجاب الكامن ..
كنت أشد الرفاق ساعدا وأقواهم عضلا ، وكنت ألاحظ أن فتاة تجىء ساعة الغروب وعند الطفل .. عندما يغيب قرص الشمس وراء الجبل ، كانت تطلع هى علينا .. فيخيل إلينا أن الشمس لا تزال طالعة .. ! وكانت من دون النساء جميعا، تهل علينا سافرة تاركة نفسها على سجيتها ، فلم تكن تتصنع فى مشيتها ، ولا فى لفتتها ، ولا فى نظرتها ..
وكنت أتعمد أن أكون فى الساعة التى تجىء فيها فى آخر درج من الشادوف ، عند الماء ، لأكون بالقرب منها ، وهى تملأ الجرة .. كانت تدع الجرة على الشاطئ هنيهة ، وتجلس محدقة فى الماء ، كأنها ترى وجهها فى صفحته .. ثم تتناول الجرة بيدها اليمنى ، بعد أن تشمر عن ساعديها وتنزل إلى الماء ، رافعة ثوبها عن ساقيها قليلا .. قليلا .. حتى يبلغ الماء قصبة الساق .. ! فتنحنى على الماء وتملأ الجرة ، ثم تعود إلى الشاطئ ، وترسل ثوبها ، وتنتصب ، وهنا يبدو عودها اللدن ، ووجهها المشرق ، وشعرها الغدافى الجثل المرسل وراء ظهرها ، والذى يكون هالة لجبينها ..
كانت كإحدى عرائس البحر التى نسمع عنها فى الأساطير ، وكأنما جعل اللّه كل فتنتها فى عينيها ، فكانت عندما تأخذ فى رفع الجرة على رأسها ، تتلفت نحوى كما يتلفت الظبى الشارد .. ! كنت فى تلك اللحظة أنتفض ، وأنحنى على الشادوف ، ثم أرفع رأسى ، وأرمى بالدلو إلى القناة فى عنف .. ! وكانت هى ، فى تلك الساعة ، تصعد المنحدر إلى الطريق ، فأرى ثوبها ، وهو ينثنى على ظهرها ، وأشيعها ببصرى حتى تتوارى عنى .. ويزحف الغسق ، فنخلع الدلاء ، ونأخذ طريقنا إلى القرية .
***
كنا غرباء عن القرية ، وكان المنزل الذى نكتريه فى ناحيتها الشرقية ، وكان أقرب منازل القرية إلى الحقل ، فلم نكن ندخل القرية ، أو نرى سوقها إلا قليلا .. ولهذا ما كنا نرى من النساء إلا أولئك اللواتى يجئن ليملأن الجرار ساعة الغروب وعند الفجر .. فكن سلوتنا وبلسم أحزاننا .. وعلى الرغم من أن واحدًا منا لم يحادث واحدة منهن ، فقد كنا جميعا نشعر بسعادة تهز مشاعر الإنسان ، كلما سمعنا حسهن ، ووسوسة حليهن .. !
وأخذت الفتاة على توالى الأيام تبادلنى النظرات ، وتتمهل فى سيرها وهى نازلة إلى النيل ، أو صاعدة إلى الطريق ، لأملأ عينى منها ، وكنت أشعر بلذة تهز كيانى كلما ارتوت عيناى من حسنها ..
وكانت تتخلف أحيانا فى بعض الأيام ، فأشعر بالوحشة والقلق ، وأحاول أن أسأل الناس عنها ، وأظل على أحر من الجمر حتى تعود .. ! فأعود معها إلى عملى بنشاط وقوة .. ! أصبح كل شىء فىّ معلقا بها .. وكنت محروما .. مرت علىّ سنوات عدة لم أتصل فى خلالها بامرأة ، فكنت أحس ، كلما وقع بصرى عليها ، بسعار يسرى فى ألياف لحمى ولهب .. ! وكانت على مر الأيام قد عرفت حالى .. وأدركت بغريزتها ما أعانيه فى سبيلها ..
فكانت تتأخر عامدة إلى ما بعد الغروب ، وتروح وحدها محاذية الحقول ، وعلى رأسها جرتها ، وكانت تسير متهادية متباطئة ، حتى تبلغ جسر القرية ..
وكنت أقف على رأس الحقل ، وأرسل وراءها بصرى ، وهى مولية عنى فى غبش الغسق .. كانت كعروس البحر ، وهى سائرة وحدها فى أول الليل ، كانت أنفاس المزرعة تتعطر ، والجو كله ينقلب رخاء سجسجا ، ونسيما لينا يداعب الوجوه ، والقرية تستقبلها ضاحكة ، كأنها تستقبل عروسها ، وبنتها البكر .. !
كان كل شىء يضحك ويبتسم فى وجهها ، وكان رفاقى فى الحقل يحدجونها بعيونهم ، ويرمونها بنظراتهم النهمة ، وهى سائرة وحدها بجانب الحقل .. ولكن أحدًا منهم لم يكن له مطمع فيها ، ولا أمل .. !
وكثيرا ما كانت تقف على رأس المنحدر ، وترمقنا ونحن نتسابق بالدلاء .. فإذا ما كانت الغلبة لى انثنت عنا ، وهى ترسل إلىّ أعذب ابتساماتها .. ! كنت أشعر بقوة غريبة كلما رأيتها ، وأود لو أنزح ماء النيل كله فى غمضة عين ..
***
وتبعتها ذات مساء وهى متروحة وحدها .. سارت على الجسر ، وقبل أن تبلغ منازل القرية انحدرت عنه ، ومشت متمهلة فى طريق صغير بين الحقول.. وهى تلوح بساعدها الأيمن فى الهواء .. وتضع يدها اليسرى على بطن الجرة ..!
وخرجت من الحقول إلى عرصة فسيحة ، وبدت أمامى ، فى ناحية من العرصة ، بيوت من الشعر .. أخبية متناثرة على غير انتظام .. لم أشاهد هذه الأخبية من قبل ، مع أنى مررت على الجسر أكثر من مرة .. ! ولعلى لمحتها فى صورة سريعة لم تطبع فى مخيلتى ، ككل شىء لا يعنينا فى هذه الحياة ..
جلست على حافة الجسر أرقب خباءها ، وخباء من معها من قومها وكانوا عشرة أو يزيدون .. فيهم كثير من الأطفال ، وقليل من الرجال .. ونساء غيرها ، ولكنها كانت أشدهن فتنة وأخذا .. وكان مع هذه القافلة غنم وعنزات .. وبط ودجاج يرعى فى كل مكان ثم أتانان مهزولتان .. لا شك أن عليهما حمل متاع هذه القافلة إلى حيث تمضى .. !
نظرت إلى هذا كله .. وأدركت أنهم من الغجر الذين يخيمون كثيرا فى هذه القرية ، ثم يقوضون خيامهم ، ويرحلون عنها بأسرع مما جاءوا .. سررت وتألمت فى آن .. وأخذت أراقبهم ..
ومع أن الليل لم يكن قد أسدل غياهبه ، ونشر ظلامه ، فإنهم كانوا يوقدون النيران فى أكثر من مكان واحد .. ويهيئون العشاء فى قدور تغلى ، ويتصاعد من تحتها الدخان .. ! ورأيت فى ناحية من المكان عجوزا ، براقة العينين ، تحرك بيدها مجرافا طويلا ، وتذكى النار فى الموقد .. وعينها على جدى يناطح خروفا .. ! وامرأة قصيرة القامة تلقى بعض الحشائش للعنزات .. وأخرى ترضع صغيرا .. وصبية يتصايحون .. بين البط والدجاج والكلاب ، التى لم يكن فيها كلب واحد ينبح ، أو حتى يحرك ذنبه .. !
وكان هناك رجل كث الشارب ، أحمر البشرة ، له وجه شيطان وجسم ثور ، يفتل حبلا طويلا من الليف ، ويصعد بصره فى السماء من حين إلى حين ..
وكانت صاحبتى قد دخلت الخباء ، ثم خرجت منه ، وتبادلت مع ذلك الثور الضخم بضع كلمات .. ثم انتبذت ناحية ، وجلست وحدها ساكنة ، وعينها إلى نخيل القرية السامق ، وهو يتمايل مع نسيم الغروب ..
***
كنا نسقى الأرض العالية من الحقل ، وكانت القناة الرئيسية ممتلئة إلى حافتيها بالماء ، وكنت أمر عليها ، وأقوى الأماكن الضعيفة منها ، وأعمق القاع ، وأجرف الطين ، وأزيح الأعشاب ..
ولمحت الفتاة قادمة من بعيد .. مالت عن الجسر ، وسارت فى الطريق الصغير بين الحقول ، وكانت تمشى الهوينا كعادتها ، وتسوق أمامها قطيعا .. قطيعا عجيبا .. كان خليطا من الغنم والأعنز والبط ، وبعض الطيور الأخرى .. وكان الوقت ظهرًا ، والقيظ شديدًا .. وكانت تلوح بعصاها ، وتنزل بها على ظهر الغنم .. وترد الأعنز إلى الطريق ..
وكانت تمشى الوجى ، وملامحها ساكنة ، ووجهها فى لون البرنز وفمها الدقيق مفتوحًا .. ونفسها مبهورًا ، وقدماها عاريتين .. ولقد أشفقت على هاتين القدمين الصغيرتين ، وهما تصليان نار الأرض ، فى تلك الساعة من النهار .. ووددت لو أفرش لها الطريق بالسندس ، أو الإستبرق .. !
وقفت على مدى أذرع قليلة منى .. وورد القطيع الماء .. مدت الأغنام والعنزات أعناقها وقفز البط إليه .. وكنت محولا وجهى عن الشمس ، ويدى على الفأس ، وعينى إلى الأفق .. وشعرت لأول مرة فى حياتى باضطراب شديد ..
أنا رجل من لحم ودم .. رغم كل شىء .. ورغم ما فى من قوة الأعصاب.. وأنا وإن كنت ريفيا خشنا لم يخفق قلبى خفقة الوجد ، ولم أنعم فى ظلال الروض بنسيم الحب وشذاه .. ولكنى رجل .. رجل فى ربيع عمره، من لحم ودم .. ذاق قسوة الحرمان عدة سنين .. !
ولهذا شعرت عندما اقتربت منى هذه المرأة ، وامتزجت أنفاسها بأنفاس الزرع المحيط بى ، بأن يدًا من الفولاذ تعصر قلبى .. فوضعت الفأس على كتفى ، وتركت المرأة وحدها، ودخلت الحقل ، وأخذت أضرب فى الأرض ، وعيناى لا تريان شيئا ، وجسمى يسيل عرقا .. وظللت على ذلك مدة خيل إلى أنها طويلة جدا..
وتنبهت على صوت المياه ، وهى تتدفق بجوارى ، وتسيل تحت قدمى .. فأسرعت إلى خارج الحقل .. فوجدت القناة قد تقطعت فى المكان الذى كان يشرب فيه القطيع .. وكانت الفتاة واقفة فى مكانها تضحك .. !
فقلت لها فى غيظ وخشونة :
ـ أهذا مضحك .. ؟
ـ ليس أمتع منه منظرًا .. !
ـ اذهبى بغنمك وعنزاتك .. إن هذا جهد تسعة رجال من لحم ودم .. اذهبى ..
فظلت فى مكانها ، ساجية الطرف ، تضحك !
ـ أقول لك اذهبى .. اذهبى إلى جهنم بغنمك و ..
ـ أنا أشرب من النيل .. والنيل ليس ملكك ، ولا ملكا لأحد .
فلوحت بذراعى ، وصحت فى وجهها وصوتى يرعد من الغضب !
ـ النيل هناك .. وإذا جئت إلى هذه القناة مرة أخرى سأقطع رأسك بهذه الفأس .. !
فبقيت فى مكانها ساكنة ، ووجهها باسم ، لم يكن هناك شىء يخيفها ، أو يفزعها .. ! وكنت قد سددت القطع ، وسكن جائشى ، وعاودنى بعض الهدوء .. وكانت تلاحظنى ، وأنا أجرف الطين ، بعينين ذابلتين ، شبه مسبلتين، ولكنهما تلمعان ، ويبدو فيهما من حين إلى حين .. ذلك البريق الخاطف الذى لا تراه إلا فى نساء « النور » ..
هزت عصاها ، وساقت القطيع .. تقدمت به نحوى ! ووقفت أمامى فى الناحية الأخرى من القناة ، وكان خداها يرف لونهما ، ويذوب فيهما شعاع الشمس ، وشفتها السفلى فى لون الدم .. ! ورفعت أهدابها ، وقالت فى صوت كالهمس :
ـ أعطنى بعض الحشائش للعنزات .. !
فأشرت بيدى إلى الحقل ، وقلت لها فى صوت جاف :
ـ الحقل أمامك ، فورقى منه ما تشاءين ..
ـ لا أعرف .. !
ـ ماذا ؟! ...
ـ لا أعرف .. أنا لست فلاحة ..
ـ أنا أعرف أنك بنت العمدة ! .. ومن تكونين إذن ؟ ..
ـ أنا غجرية ! ..
ـ نورية ؟ ..
ـ نورية ! ..
ـ ومتى ترحلون .. !
ـ لا ادرى .. ولا حتى طوفان يدرى .. !
فأدركت أن طوفان هو ذلك الثور الهائل الذى كان يفتل الحبل ، ولا شك أنه زعيم القافلة .. ! ورجلها أيضا .. !
ودخلت الحقل ، وخرجت منه بحزمة ضخمة من الحشائش ، وألقيتها تحت قدميها ..
وقلت لها :
ـ خذى .. واذهبى عنى ..
ـ أنا لست قوية مثلك .. ولا أستطيع حمل هذه .. !
ـ إنها ليست أثقل من الجرة ..
ـ ولكننى لا أستطيع حملها ..
ـ سترين .. !
وعبرت القناة ، واقتربت منها .. واقتربت منى .. ورفعت طرفها .. وصوبت عينيها إلى أعماق عينى ..
وأخذنى ما يشبه السعار عندما لمست يدى ذراعها .. ووضعت الحزمة على رأسها فى قوة ، فرفعت أهدابها ، وركزت بصرها .. وظلت على ذلك برهة .. ثم حولت وجهها عنى ، ومضت تحت وهج الشمس الحامية ..
***
تعلق قلبى بها بعد هذه المقابلة ، وأخذت أفهم بوضوح سر نظرتها .. وأتبين الرغبة فى أعماق عينيها ..
كانت قد هزت شيئا كامنا فى أعماق نفسى .. وحركت غريزتى بعد طول سكونها ، وطول خمودها .. عندما تبتعد عن المرأة ، وتشغل عنها بالعمل الشاق ، لا تعود تفكر فيها إلا تفكيرا عارضا.. وقد تطرحها وراء ظهرك وتنساها كلية .. !
ولكن ويل للرجل القوى الجسم ، الكامل الرجولة إذا حامت حوله امرأة .. وألقت عليه شباكها.. ووقع تحت سلطان نظرتها النهمة .. ويل له من العذاب المضنى ، والألم الشديد ، والقلق المستبد ، والأرق الذى لا نوم بعده ..
كنت أضع جنبى على الأرض ، ولا أتحرك طول الليل ، ولا يمر بى حتى طيف حلم .. ! أما الآن فأنا أتقلب طول الليل على جنبى ، وأتمثلها بنظرتها ورغبتها .. وأحلم بأنها بين ذراعى ، وأنى آخذها فى أحضانى .. ! لقد أخذ نظرى يشرد ، وعقلى يضطرب ، وجسمى يثور ، وروحى تتعذب ، وجو حياتى كله قد تكنفته الشياطين .. !
***
اشتد على الأرق فى ليلة من الليالى ، وثارت ثورة الدم فى جسمى ، فغادرت المنزل ، ومشيت على الجسر ، وكان الليل ساكنا ، والظلام مخيما ، والقرية كلها غارقة فى سبات عميق .. ولا شىء يقطع هذا السكون غير نباح الكلاب بين الفينة والفينة ..
ومضيت على الجسر حتى ألفيت نفسى واقفا بإزاء خبائها .. إنها نائمة الآن .. ربما فى أحضان ذلك الثور .. أو ساهرة وحدها تعد النجوم .. ويممت وجهى شطر الحقول ، ووجدت نفسى أمضى سريعا كأنما أساق إلى غاية .. وأخذت عينى الشواديف ، وهى قائمة فى فحمة الليل كالأشباح .. ومشيت على النيل ، ولمحت قلوع المراكب البيضاء ، وهى ترتعش فى جوف الظلام ..
وطالعنى الجمال والسكون من كل جانب .. سكون النيل .. وسكون الروض .. وسكون الليل .. ولكن لا شىء يسكن ثوران جسمى ، ويهدئ فورة الدم فى شرايينى ! .. لا شىء .. !
اضطجعت فى بطن القناة .. وعينى إلى نجوم الليل البراقة .. وأذنى إلى كل حس .. إلى حس إنسان .. إلى صوت امرأة .. ومضت ساعة .. وأنا مرهف سمعى .. وبصرى لا يتحول عن الطريق ..
وسمعت حسًا ، سمعت صوتًا كالهمس ، فرفعت رأسى ، وشخصت ببصرى .. وكان النور قد بدأ ينتشر .. وتبينت نساء فى الطريق إلى النيل .. لقد بدأن يملأن الجرار .. وستجىء هى .. بعد هؤلاء أو بعد سواهن .. وعادت النسوه إلى القرية ، وجاء غيرهن .. ومضين .. ولم يأت بعدهن أحد ..
أنقطعت الرجل .. واشتد السكون .. ورأيت سوادا ينحدر عن الجسر .. نهضت بصدرى وأرسلت عينى .. وظللت معلقا بصرى بهذه المرأة حتى اقتربت وتوضحتها .. إنها هى .. ولا أحد يتأود فى مشيته مثلها .. ولا أحد يجىء وحده سواها .. ونهضت من مكانى ، واندفعت فى سرعة البرق إلى الحقل .. !
وحملت فأسا على ظهرى ، ومضيت إلى رأس القناة ، وأخذت أضرب فى الأرض .. ! ونظرى يرتفع عن الأرض ، ويستقر على الطريق .. وكانت تسير هادئة ساكنة ، ولما اقتربت منى سمعت صوت الفأس .. فمالت برأسها ، وتمهلت فى سيرها لحظة .. ثم استأنفت السير حتى اقتربت منى جدا ..
وقالت:
ـ آه .. أهذا أنت ؟ .. إنك لا تنام كالشياطين .. !
فلم أرد عليها ، وأخذت أضرب فى الأرض ..
ـ أتعمل فى هذه الساعة .. إن النور لم يطلع بعد .. !
ـ يجب أن أهيىء القناة قبل أن تدور الشواديف .. »
ـ ولكن هذا جهد شاق .. شاق جدا .. يضر بك ويفنى قوتك ..
ـ إن هذا لا يضر .. ولا شىء يفنى قوتى إلا الموت ..
فابتسمت ، ومضت بالجرة ونزلت إلى النيل .. ألقيت الفأس .. ووقفت على رأس المنحدر أرقبها بعينين زائغتين .. وطلعت ، ورأتنى واقفا كالناطور .. ! فوضعت الجرة على حافة الطريق لتصلح من ثوبها ..
وقالت :
ـ لماذا تقف هكذا .. أتريد أن تستحم .. ؟
ـ أجل ..
ـ فى طريق النساء .. إنك شيطان .. !
ـ لقد انقطعت الرجل .. وسأذهب بعيدا .. دعينى أساعدك على حمل الجرة ..
ووضعت يدى على يدها ، وهى ممسكة بأذن الجرة .. وسرى فى جسمى اللهب ..
نظرت إلىّ .. وأدركت ما يدور فى خاطرى .. وشددت على ذراعها ..
فقالت :
ـ دعنى أمض .. لماذا تنظر إلى هكذا .. دعنى أمضى ..
وكانت تهمس ، ولكنى شددت على ذراعها بقبضة من فولاذ .. وحملتها.. وفى سرعة البرق دخلت بها الحقل ..
***
وقالت لى وهى تحمل الجرة عائدة إلى القرية :
ـ إنك وحش .. ولكنى أحب الوحوش .. !
***
ومرت الأيام ، وكانت مستسلمة بكليتها لى ، وشاعرة بنشوة لا تصور ، وكانت تأخذ منى كثيرا ، ولا آخذ منها شيئا .. ولم تكن من أولئك النساء اللواتى يشعرن بعد الجريمة بعذاب القلق ، ويقظة الوجدان فيرحن يقطعن حسرات ويرسلن العبرات .. ! لم تكن من هؤلاء فى شىء ، بل كانت تزداد على الأيام فجورا وسعيرا ، وازداد معها نزقا وطيشا ..
عندما كنت صغيرا ، كنت أخرج مع لداتى من أبناء قريتى إلى النيل ، ونتسلق صوارى المراكب إلى أن نصل إلى قمتها .. ونقفز من هذه القمة إلى الماء .. ونغوص إلى القاع حتى تلمس أقدامنا الوحل .. ! ثم نشب بعد ذلك فى بطء ، ويصافح وجهى سطح الماء فأنفض رأسى ، وأنا شاعر بدوار لذيذ .. ! وهذا هو حالى مع هذه المرأة ، فأنا غائص إلى الأعماق ، وشاعر بنفس الدوار ..
كان جسمها من السعير ، وكانت روحها تتلظى أبدا فى النار ، وكنت كأنما شددت إليها بسلاسل من الحديد ، فما من فكاك ..
وكانت روحى تستيقظ من حين إلى حين ، فأشعر بعذاب قتال ، لقد كنت ناعم البال ، قرير العين ، مثلوج الفؤاد ، قبل أن ألتقى بهذه المرأة ، فلما التقيت بها ، لفتنى العاصفة الهوجاء فى طياتها ، وكدت أذهب مع الريح .. !
ولقد كان الرفاق يذهبون جميعا للصلاة فى يوم الجمعة ، وكنت أتخلف وحدى .. فما كنت أستطيع أن أذهب معهم ..
كان جسدى قد سقط ، وروحى قد تلوث ، فكيف أقف أمام اللّه كما كنت أقف من قبل .. ويل لى من العذاب .. كنت أتبع الرفاق ببصرى ، وأنا واقف فى مكانى كالمنبوذ ، وأود لو أتمرغ فى التراب .
***
كانت الشواديف دائرة على أشدها ، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب ، وفعل نسيم الغروب فى أجسامنا فعل السحر ، فازددنا نشاطا وقوة .. ودارت الشواديف فى جنون ، وكنا ، نغنى ونشيع النهار المولى ..
وسقط أحد الشواديف فجأة ، مالت قوائمه ، وتحمل عجزه على الأرض .. وصعدت مع أحد الرفاق لرفعه .. وفيما أنا أدور ، وعلى صدرى هذه الكتلة الضخمة من الطين ، زلفت رجلى وسقطت إلى أسفل .. وجرحت جرحا بليغا واختلط الدم الغزير بالماء .. وغدا كل شىء أحمر ..
وكفت الشواديف عن الحركة .. ونظر إلى الرفاق فى ذهول ، وشفقة وألم .. وحملونى إلى البيت ..
وكان عباس أقوى الرجال من بعدى .. فاحتل مكانى ، وأدار دفة العمل أثناء مرضى ..
***
وطالت أيام مرضى .. فلم يكن هناك علاج ولا طب ، فقد تركت نفسى لرحمة الأقدار ..
وتطور الجرح ، وأصبت بالحمى ، وكنت أهذى طول الليل فى غرفة حقيرة قذرة ليس فيها نور ، ولا هواء ، ولا تراها عين الشمس .. فلم يكن فيها غير منفذ واحد ، وهو بابها الصغير .. ! وكانت الحشرات تمرح فيها فى الليل ، والذباب يملأ جوها فى النهار ، والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان ..
وكنت ملقى على حصيرة قذرة فى ركن من الغرفة .. وتحت رأسى وسادة أقذر منها .. فأى عذاب وألم ، وأى حياة يحياها الريفى المسكين.. ! إنه إذا عاد من الحقل ، ودخل البيت ، أو ما يسمى بيتا شعر بالاختناق ، ولكن حسه يبلد على مر الأيام ، وعينه تألف القذارة ، كما يتعود بطنه الجوع .. فإذا مرض أرهف حسه ، ورجعت إليه مشاعره من جديد، وذكر المدينة وما يجرى فيها .. وراح يتصور القصور الشامخة ، والحدائق الغناء .. والمستشفيات والأطباء فى كل مكان فى المدينة .. وتفتحت آفاق نفسه ، وتاقت لأطايب الحياة ومناعمها ، وتحسر على ما مضى من عمره فى فقر وعذاب .. وأحس بالألم ، وويل للمظلوم إذا شعر بأنه مظلوم ..
كنت أقضى الليل ساهرًا ، وأفتح عينى فى الظلام ، وأحس بعباس وهو يتسلل من الغرفة فى أخريات الليل .. وأسائل نفسى إلى أين يذهب ..! فإذا رجع نام كالقتيل .. ! أهو عائد من عندها .. ؟ لقد كنت أنام هكذا .. بعد كل موعد معها .. فمن المحتمل جدا .. أنها أوقعته فى حبالتها .. وهى تواعده كل يوم كما كانت تواعدنى ، وتأخذه إلى نفس المكان .. ! فيالسخرية الأقدار .. كنت أدور ببصرى فى الغرفة كالمجنون حتى أستقر على وجهه ، وأود لو أعرف الحقيقة ، الحقيقة ليس إلا .. فقد كان الشك ينهش قلبى ..
***
وكان أول شىء فعلته بعد أن قويت على السير ، ورجعت إلى بعض قوتى ، أنى ذهبت إلى الحقل مبكرا لأراها .. ورأيتها وحادثتها وواعدتنى ، وجاءت فى هذه المرة فى نصف الليل ، ولم تبق طويلا .. وكانت تنظر إلى عينى فى استغراب ، ولم أدرك سر نظرتها ..
وقابلتها بعد ذلك مرات ، وكانت فى كل مرة لا تمكث سوى دقائق قليلة ، وتتعلل بالأكاذيب ..
وذات مرة أمسكت بذراعها ، وقلت لها فى غضب :
ـ ما الذى جرى يا ناعسة .. لقد تغيرت .. لماذا لا تمكثين غير لحظات ، وتمضين لطيتك .. ؟
ـ إن طوفان بدأ يلاحظ .. وأنت تعرف الثور عندما يثور .. !
وكانت تكذب ، فليس لطوفان ، ولا ألف رجل من أضرابه حساب فى نظرها ، وما من شىء كان يخيفها ويحول بينها وبين رغباتها ، وما من إنسان تخشاه .. فقد تقمصتها روح شيطان .. ولكننى تغيرت فتغيرت .. ملت وضجرت ، لأنها لم تعد تحس بقوة سواعدى ..
***
ورأيتها ذات مساء تديم النظر ، فى سكون ، إلى عينى ، ثم تولى وجهها مفزعة .. !
فسألتها :
ـ لماذا تنظرين إلى هكذا .. ؟
فعاد الهدوء إلى وجهها ، وارتسمت على فمها ابتسامة باهتة ، وظلت صامتة ..
ـ لماذا تنظرين إلى عينى هكذا .. ؟
وهززت ساعدها .. فقالت فى صوت كالهمس :
ـ أرى فى عينيك شيئا رهيبا .. !
ـ ما هو .. ؟
ـ لا أستطيع أن أبوح لك به الآن .. دعنى أمض ..
ـ لن أدعك تذهبين .. حتى .. حتى ..
ـ إنك مخبول .. دعنى أمض .. لا شىء فى عينيك ..
ومضت فى جوف الظلام ..
***
وسرت وراءها ذات ليلة .. وأحست بى فتوقفت عن سيرها ، وتقدمت حتى وقفت أمامها ، وأمسكت بذراعها ، فأفلتت ذراعها من يدى بقوة كمن أصابته لدغة عقرب .. ! وفى مثل لمح الطرف انقلبت ملامح وجهها إلى وجه نمرة .. !
وقالت بصوت يرتعش ، وهى ترسل من عينيها نارا :
ـ ما الذى تريده .. ؟
فأرسلت يدى إليها مرة أخرى ، فصرخت فى وجهى :
ـ ابتعد عنى .. لا تلمسنى أيها القذر .. !
شعرت بغيظ شديد ، وتلفت حولى فلم أجد إنسانا .. ليس هناك سوانا ، ونظرت إليها نظرة مجنون .. كان قلبى يتقد من الغيظ ، وعيناى ترسلان وهجا من نار .. وأدركت ما يدور فى ذهنى ..
فقالت فى هدوء ، وشفتها السفلى متقلصة ، وعينها لا تتحول عن وجهى :
ـ هل تحسب أنك تخيفنى بهذه النظرة .. ! أنا لست ملكا لك ، ولا ملكا لأحد .. أنا حرة طليقة كالطير ، أطير فى كل مكان .. وما لأحد سلطان على .. وما من شىء يخيفنى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق يوما إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
ومضت عنى ، واحتواها الظلام ، وبقيت مسمرا فى مكانى ، ملصقا بالأرض ، كأنى أحد النواطير القائمة فى الحقل لتخيف العصافير ..
***
ونضج حقل الذرة وأخذنا نقطع الكيزان ، ونكومها فى طرف الحقل .. وكان ثلاثة منا يبيتون فى الغيط مناوبة ، ومعهم سلاحهم ، وكان الحقل قد قطع نصفه وبقى نصفه ، الآخر قائما .. وكان علينا النوبة ، أنا وصاحبى عباس ، ورجل ثالث ..
وكانت الليلة مظلمة ساكنة الريح ، ففرشنا الزكائب وتمددنا عليها ، وأعيننا تحصى النجوم فى السماء .. وآذاننا إلى كل حس .. وكانت رقعة السماء منبسطة ، والنجوم تتهاوى فى ثلث الليل الثانى كالشهب ، وكان النيل قد فاض .. وأخذت الضفادع تنقنق .. احتفالا بفيضانه .. ! واعتمد رفيقنا الثالث على حزمة من القش ونام ، وبقيت أنا وعباس نتحدث .. وكان بين الفينة والفينة يرفع بصره إلى الطريق .. ثم يضع رأسه على الزكيبة .. وأكثر من هذه الحركة ..
فسألته :
ـ لماذا تدور ببصرك هكذا .. ؟
فقال :
ـ أخاف على الناقة .. »
وكانت باركة .. على مسافة منا ..
فقلت له :
ـ لا تخش شيئا .. بركها هنا .. على مرمى البصر منا ..
فنهض وأخذ بخطام الناقة .. وعينه تتلفت كأنه يبحث عن شىء .. ثم أناخها عن قرب .. وعاد فتمدد ..
وأخذنى النوم ، وصحوت فتفقدت رفيقى فلم أجده بجوارى ..
ودرت فيما حولى .. ولمحت امرأة خارجة من الحقل .. مضت فى الطريق وهى لا تتلفت .. ورفعت وجهى ، وعرفتها .. لقد كانت هى بعينها ، بلحمها ودمها ومشيتها ، ولا أحد يمشى غيرها ، فى غلس الليل ، وليست هناك امرأة تركب الخطار مثلها .. فى سبيل إرضاء رغبتها ..
وسحبت البندقية من تحتى ، كنت فى حالة هياج وخبل .. وكانت الغيرة العمياء قد تملكتنى .. لماذا لا أقتل هذه الحية ، وأريح البشرية من سمها ؟..!
انها قتلتنى ، وستقتل عباس من بعدى .. ثم ترمى حبائلها وشباكها إلى رجل آخر .. وتأخذ من كل رجل كل قوته .. فإذا ضعف أمامها لفظته ، وطرحت به بعيدا .. وكم قتلت من الرجال قبلى ، وكم ستقتل من بعدى ..
وجذبت الأكرة ، وسمعت حركة الرصاصة وهى تستقر فى الماسورة ، وصوبت وسددت ، وبقيت ثانية أرتعش ، ورأيتها تتلفت ، أدارت وجهها... ورأيت عينيها ، بعين الخيال ، تنظران إلىّ فى قوة ..
وهى تقول :
ـ لا أحد .. يستطيع قتلى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
وغامت عيناى .. وسمعت صوت رفيقى الثالث وهو يقول :
ـ ما الذى جرى يا نعمان .. أترى شيئا .. ؟
فأجبته فى صوت يرتعش :
ـ ألمح ظل ثعلب .. وكنت أود أن أصطاده ، ولكن اللّه أراد أن يذهب إلى سبيله .. !
ووضعت البندقية فى مكانها ، بعد أن أخرجت الرصاصة ..
وجاء عباس .. بعد مدة .. وعندما لمحته قادما من بعيد تناومت .. وحدق فى وجهى طويلا ، ثم ارتمى على كوم من القش ونام ، دون حس ولا حركة ، كأنه كان يقطع الأحجار طول النهار فى المحجر .. !
***
انتهت أيام العمل وعدنا نتبطل ونركب الحياة بشبابنا ..
وكان أحد أبناء الأعيان سيتزوج .. ولما كان محبوبا ووحيد أبويه ، فقد عم الفرح كل بيت فى القرية ، وكان الفرح قد بدأ قبل الزفاف بأسبوع بالرقص على الخيل ، ولعب العصا من العصر إلى الغروب ، وبعد العشاء يدور السامر إلى الفجر ..
وأعدوا أرضا منبسطة فى خارج القرية لذلك ، ولما كنت من اللاعبيين بالعصا ، فقد كنت أذهب إلى هناك ، عندما أسمع أول ضرب للطبل ، وأول صوت للمزمار ..
وكنت قد شفيت تمامًا ، ورجعت إلى قوتى ، وتطلعت إلىَّ الأنظار ، فقد كنت أبرع من دار بالعصا فى حلقة ، وكان عباس أيضًا من البارعين فى هذه اللعبة ، ولهذا كان يلاعبنى كثيرًا ، على أن الغلبة كانت لى دائمًا .. وظللت بطل الميدان ، ومحط الأنظار ، وكان سرورى بذلك عظيما ..
وكان السامر يبدأ بعد العشاء ، وتشعل النيران لتحمى بها الدفوف ، ثم يدور الرقص فى ضوء القمر ، وتحت نوره الفضى ، ويزمر الزامرون ، وترقص الراقصات ، والسامر كله يصفق فى مرح وحبور .. وتتثنى الراقصات ، ويدرن فى الحلقة ، يوزعن البسمات على الجالسين ، ويجمعن النقود .. !
***
وجاءوا بناعسة ذات ليلة .. وكانت ترقص مسبلة العينين ، مفتوحة الشفتين ، كأنها فى نوم هادىء تتخلله ألذ الأحلام .. ! وكان جسمها يتلوى ويتثنى ويدور ..
وكان عباس فى الصف الأول من الحلقة ، فكانت تدور إلى أن تحاذيه ، فتقف أمامه ، وتطيل الوقفة ، وهى تميد وتتمايل ، وعلى ثغرها ابتسامة مغرية .. ثم تميل عليه ، وتأخذ منه النقود بفمها ، وتبتعد عنه لتقترب منه ، وتدور فى السامر كله ، وعينها لا تتحول عنه .. وكنت أشاهد هذا بعينين سادرتين .. وكانت تمر أمامى ، ولا تكاد تتوقف ، ولا تكاد تحس بوجودى .. فكان الغيظ يدفعنى إلى أن أحمل على السامر ومن فيه ، وأحطم كل شىء تحطيما ..
وانفض السامر ، ومشيت إلى البيت مخذولا كسير القلب .
***
وابتدأ لعب العصا فى اليوم التالى .. وكان عباس يلاعبنى ، وصورة الأمس لا تزال فى مخيلتى .. كنت أتمثلها وهى تدور به ، وتتثنى حوله ، وتكاد ترتمى بين ذراعيه أمام الناس .. !
دار بالعصا فى الحلقة ، وعيناى لا تفلتانه ، ولوح كل منا بعصاه .. ووضعها على الأرض .. ودار .. ودرت .. وتقدم .. وتقدمت .. وتشابكت العصوان .. وضربنى ضربتين تحت إبطى .. وشعرت بالذلة .. وكان الغضب ، وما حدث فى اليوم السابق قد أعميا باصرتى فلم يكن لعبى إلا لغوا .. وفقدت كل قدرة على التوجيه .. وكنت لا أرى إلا صورة الأمس ..
صورة تلك المرأة الملعونة التى ستذهب بشبابى .. ورأيت ذراعيه تلوحان بالعصا .. ولم تكونا فى نظرى تلوحان بالعصا .. بل كانتا تدوران حول ناعسة .. ولا شىء غير هذا .. !
ودار وضربنى ضربة قوية .. وضج السامر .. فضربته ضربتين ولكنه تلقاهما على عصاه .. فزادنى ذلك غيظًا .. وخرجت عن طوقى .. وكان محتفظًا بحواسه كلها .. وضربنى ضربة أخرى نزلت تحت ابطى .. واحمرت عيناى .. وتراجعت إلى الوراء وضربت بكل قوتى .. ضربة واحدة .. حطت على صدغه .. وسقط .. واستولى الذهول على الناس .. وانقطع صوت المزمار .. !
***
ووضعوا الحديد فى يدى ، وساقونى وحولى نطاق من الجند إلى المركز ..
وسرنا على جسر القرية الطويل ، مع الشمس الغاربة ، فى سكون وصمت .. ولمحت ناعسة عن بعد نازلة إلى الطريق ، وسائرة إلى النيل تتهادى على مهل ، وعلى رأسها جرتها .. كانت تمشى الهوينى كعادتها فى سكون وهدوء ظاهرين ، كأن لم يحدث شىء .. !
إنها المرأة .. إنها الحياة الماضية فى طريقها لا تعبأ بشىء مما يجرى من أحداث ..
================================
نشرت القصة فى مجموعة " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى سنة 1944 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================
فى القرية
قصة محمود البدوى
كنا نستيقظ فى الساعة الخامسة صباحا .. حتى فى أشد أيام الشتاء برودة ، وأقساها زمهريرا ، ونتخذ طريقنا إلى الحقل متثاقلين ..
كنا خمسة عشر رجلا من قرى مختلفة ، جمعنا عمل واحد فى قلب الصعيد ، كنا من العمال الأجراء الذين يسعون فى الأرض طلبًا للرزق ، أينما وجدوا للعمل سبيلا ، وللرزق موطنا ..
كنا من هذه المخلوقات البشرية التى كتب عليها الشقاء الأبدى فى هذه الحياة الدنيا ، والذين ولدوا فى ليال لا يلوح فيها نجم ، ولا تبدو بارقة من سعود .. !
وكانت الأيام تمضى بنا من سىء إلى أسوأ ، ولكن على الرغم من ضنك العيش ، وشدة الفاقة ، وبلاء الأيام ، فقد كنا قانعين بنصيبنا من العيش ، وحظنا من الحياة ..
كان الواحد منا لا يحصل على أكثر من ثلاثة قروش فى اليوم ، نظير العمل اثنتى عشرة ساعة فى الحقل .. وكنا نعمل بين الشادوف ، وسقى الأرض وعزقها ، من فجر اليوم ، إلى مغرب الشمس ، وطعامنا لا يعدو الخبز الأسود والبصل، وما تنبت الأرض من بقل ، ومع ذلك لم نكن نشكو نصبا ، ولا مرضا .. وكنا نعمل تحت الشمس ، ونصلى نارها طول النهار ..
وكانت ساعات الظهيرة ، فى قلب الصيف ، هى شر ما يمر بنا من الساعات .. حين تشتد الهاجرة ، ويركد الجو ، ويلتهب قرص الشمس .. كنا فى تلك الساعة نشعر بضنى شديد وعذاب لا يطاق ..
كانت الأرض المتقدة تلهث كما يلهث الكلب المضروب ، وتزفر من عذاب السعير ، والشمس تحمى حتى يلتهب كل شىء ، وتتحول دقاق الحصى إلى جمرات من نار .. فإذا أصابت باطن القدم ، كوته بنارها وشققته ورسمت فيه أخاديد .. !
وويل للذين كانوا يعزقون الحقل فى تلك الساعة من النهار .. كانوا يختنقون بين عيدان الذرة ، ويجودون بأنفاسهم فى بطء وعذاب .. وكان الذين يعملون فى الشواديف ، أسعد من هؤلاء حالا ، وأخف حملا ، لأنهم أقرب إلى الماء ، وأجسامهم شبه عارية ، وهى إن كانت تتصبب عرقا ، ولكنها لا تحمل غبار الأرض وحرقة الرمضاء ..
وكان الذين يسقون الأرض يحسون بلظاها من تحتهم ، كلما جرت عليها المياه ، كانت تخرج أنفاسها الحارة الملتهبة ، فيزداد الجو وهجا وسعيرا ..
***
كان الجهد الذى نبذله فى الشادوف جبارًا ، وكان يجرى الدماء فى عروقنا ، ويصبب العرق من أجسامنا ، وكان هذا العمل الشاق تحت لفح الشمس ، فى جو طلق ، يفيد أجسامنا من حيث لا نحتسب ، ويعوضنا عن غذائنا الردىء ، وحياتنا الشقية .. فكنا نشعر بقوة سواعدنا وقوة عضلاتنا .. وكنا نرتدى أقمصة زرقاء قصيرة ، ونعرض أجسامنا لكل تقلبات الجو ، لنأمن عادية المرض ..
كنا نجرى على حكم الفطرة السليمة ، فلم نكن درسنا الطب ، ولا تعلمنا فك الخط ، ومع ذلك كان نظرنا إلى الأمور صائبا ، وإدراكنا صحيحا ، وإيماننا باللّه ليس بعده إيمان ..
ولم يكن هناك ما يكدر صفو عيشنا ، كنا نعمل متعاونين متساندين كأحسن رفقاء ، وكان أحد الرفقة حلو الصوت شجيه ، فكان يرفع عقيرته ويشدو .. وكنا نشدو وراءه فى صوت مؤثر يأخذ بالألباب ..
وكانت الشواديف على ثلاث درجات ، ويعمل فى كل قسم ثلاثة رجال ، فى كل درج رجل .. وكنا ثلاثة صفوف متراصة ، فكانت هذه الشواديف التسعة وهى دائرة فى وقت واحد ، كأنها النواعير الباكية فى البساتين ، كنا ننسى على وقع صوتها كل تعب وجهد ، ونزداد حماسة وقوة .. ونتسابق فى نقل المياه بالدلاء من درج إلى درج .. وكان الذى فى الصف الأول يتحمل ثقل العمل كله ولهذا كنا نتبادل هذا المكان ..
كنا عدولا بالفطرة ، لأننا كنا فقراء بؤساء ، ولم يكن هناك ما يحملنا على الطمع .. ! وكانت المراكب الشراعية التى تشق النيل بصدرها تمر تحت شواديفنا ، فكنا نلوح للملاحين فيها جذلين فرحين ، ونرفع صوتنا بالغناء والنشيد مثلهم .. وأطيب ما يكون الغناء ساعة الصبح ، وعند الغسق ، فى الساعة التى يسكن فيها كل شىء ويسجو ..
كانت الأيام تمضى رتيبة ، وكنا ننتقل من الحقل إلى القرية ، وننام فى منزل صغير اكتريناه بعرق جبيننا ، واختزنا فيه طعامنا .. ولقد كان المنزل أشبه بزريبة الحيوانات التى بجوارنا .. ومع هذا فقد رضينا بقسمتنا فى الحياة ، ونصيبنا من العيش ، وكنا سعداء .. !
***
كان بجوار الشادوف الذى أعمل فيه طريق صغير يفضى إلى ساحل النيل ، وكانت النسوة فى القرية يتخذنه طريقا لملء جرارهن من النيل فى فجر كل يوم وأصيله .. ولما كنا نعمل شبه عراة فى الشواديف ، فقد كانت نساء القرية يسدلن خمرهن على وجوهن كلما اقتربن منا ، ويتجنبن النظر إلى ناحيتنا ، ومع ذلك ، فقد كانت الحماسة تبلغ بنا أشدها عندما يردن الماء .. كان كل منا يحاول أن يسبق الآخر فى نزح المياه التى تحته ليظفر باعجابهن .. ! وكن أحيانا يرميننا بنظرات جانبية سريعة .. ولكنها كانت عطشى .. كانت أجسامنا العارية ، وعضلاتنا المفتولة تثير فيهن الإعجاب الكامن ..
كنت أشد الرفاق ساعدا وأقواهم عضلا ، وكنت ألاحظ أن فتاة تجىء ساعة الغروب وعند الطفل .. عندما يغيب قرص الشمس وراء الجبل ، كانت تطلع هى علينا .. فيخيل إلينا أن الشمس لا تزال طالعة .. ! وكانت من دون النساء جميعا، تهل علينا سافرة تاركة نفسها على سجيتها ، فلم تكن تتصنع فى مشيتها ، ولا فى لفتتها ، ولا فى نظرتها ..
وكنت أتعمد أن أكون فى الساعة التى تجىء فيها فى آخر درج من الشادوف ، عند الماء ، لأكون بالقرب منها ، وهى تملأ الجرة .. كانت تدع الجرة على الشاطئ هنيهة ، وتجلس محدقة فى الماء ، كأنها ترى وجهها فى صفحته .. ثم تتناول الجرة بيدها اليمنى ، بعد أن تشمر عن ساعديها وتنزل إلى الماء ، رافعة ثوبها عن ساقيها قليلا .. قليلا .. حتى يبلغ الماء قصبة الساق .. ! فتنحنى على الماء وتملأ الجرة ، ثم تعود إلى الشاطئ ، وترسل ثوبها ، وتنتصب ، وهنا يبدو عودها اللدن ، ووجهها المشرق ، وشعرها الغدافى الجثل المرسل وراء ظهرها ، والذى يكون هالة لجبينها ..
كانت كإحدى عرائس البحر التى نسمع عنها فى الأساطير ، وكأنما جعل اللّه كل فتنتها فى عينيها ، فكانت عندما تأخذ فى رفع الجرة على رأسها ، تتلفت نحوى كما يتلفت الظبى الشارد .. ! كنت فى تلك اللحظة أنتفض ، وأنحنى على الشادوف ، ثم أرفع رأسى ، وأرمى بالدلو إلى القناة فى عنف .. ! وكانت هى ، فى تلك الساعة ، تصعد المنحدر إلى الطريق ، فأرى ثوبها ، وهو ينثنى على ظهرها ، وأشيعها ببصرى حتى تتوارى عنى .. ويزحف الغسق ، فنخلع الدلاء ، ونأخذ طريقنا إلى القرية .
***
كنا غرباء عن القرية ، وكان المنزل الذى نكتريه فى ناحيتها الشرقية ، وكان أقرب منازل القرية إلى الحقل ، فلم نكن ندخل القرية ، أو نرى سوقها إلا قليلا .. ولهذا ما كنا نرى من النساء إلا أولئك اللواتى يجئن ليملأن الجرار ساعة الغروب وعند الفجر .. فكن سلوتنا وبلسم أحزاننا .. وعلى الرغم من أن واحدًا منا لم يحادث واحدة منهن ، فقد كنا جميعا نشعر بسعادة تهز مشاعر الإنسان ، كلما سمعنا حسهن ، ووسوسة حليهن .. !
وأخذت الفتاة على توالى الأيام تبادلنى النظرات ، وتتمهل فى سيرها وهى نازلة إلى النيل ، أو صاعدة إلى الطريق ، لأملأ عينى منها ، وكنت أشعر بلذة تهز كيانى كلما ارتوت عيناى من حسنها ..
وكانت تتخلف أحيانا فى بعض الأيام ، فأشعر بالوحشة والقلق ، وأحاول أن أسأل الناس عنها ، وأظل على أحر من الجمر حتى تعود .. ! فأعود معها إلى عملى بنشاط وقوة .. ! أصبح كل شىء فىّ معلقا بها .. وكنت محروما .. مرت علىّ سنوات عدة لم أتصل فى خلالها بامرأة ، فكنت أحس ، كلما وقع بصرى عليها ، بسعار يسرى فى ألياف لحمى ولهب .. ! وكانت على مر الأيام قد عرفت حالى .. وأدركت بغريزتها ما أعانيه فى سبيلها ..
فكانت تتأخر عامدة إلى ما بعد الغروب ، وتروح وحدها محاذية الحقول ، وعلى رأسها جرتها ، وكانت تسير متهادية متباطئة ، حتى تبلغ جسر القرية ..
وكنت أقف على رأس الحقل ، وأرسل وراءها بصرى ، وهى مولية عنى فى غبش الغسق .. كانت كعروس البحر ، وهى سائرة وحدها فى أول الليل ، كانت أنفاس المزرعة تتعطر ، والجو كله ينقلب رخاء سجسجا ، ونسيما لينا يداعب الوجوه ، والقرية تستقبلها ضاحكة ، كأنها تستقبل عروسها ، وبنتها البكر .. !
كان كل شىء يضحك ويبتسم فى وجهها ، وكان رفاقى فى الحقل يحدجونها بعيونهم ، ويرمونها بنظراتهم النهمة ، وهى سائرة وحدها بجانب الحقل .. ولكن أحدًا منهم لم يكن له مطمع فيها ، ولا أمل .. !
وكثيرا ما كانت تقف على رأس المنحدر ، وترمقنا ونحن نتسابق بالدلاء .. فإذا ما كانت الغلبة لى انثنت عنا ، وهى ترسل إلىّ أعذب ابتساماتها .. ! كنت أشعر بقوة غريبة كلما رأيتها ، وأود لو أنزح ماء النيل كله فى غمضة عين ..
***
وتبعتها ذات مساء وهى متروحة وحدها .. سارت على الجسر ، وقبل أن تبلغ منازل القرية انحدرت عنه ، ومشت متمهلة فى طريق صغير بين الحقول.. وهى تلوح بساعدها الأيمن فى الهواء .. وتضع يدها اليسرى على بطن الجرة ..!
وخرجت من الحقول إلى عرصة فسيحة ، وبدت أمامى ، فى ناحية من العرصة ، بيوت من الشعر .. أخبية متناثرة على غير انتظام .. لم أشاهد هذه الأخبية من قبل ، مع أنى مررت على الجسر أكثر من مرة .. ! ولعلى لمحتها فى صورة سريعة لم تطبع فى مخيلتى ، ككل شىء لا يعنينا فى هذه الحياة ..
جلست على حافة الجسر أرقب خباءها ، وخباء من معها من قومها وكانوا عشرة أو يزيدون .. فيهم كثير من الأطفال ، وقليل من الرجال .. ونساء غيرها ، ولكنها كانت أشدهن فتنة وأخذا .. وكان مع هذه القافلة غنم وعنزات .. وبط ودجاج يرعى فى كل مكان ثم أتانان مهزولتان .. لا شك أن عليهما حمل متاع هذه القافلة إلى حيث تمضى .. !
نظرت إلى هذا كله .. وأدركت أنهم من الغجر الذين يخيمون كثيرا فى هذه القرية ، ثم يقوضون خيامهم ، ويرحلون عنها بأسرع مما جاءوا .. سررت وتألمت فى آن .. وأخذت أراقبهم ..
ومع أن الليل لم يكن قد أسدل غياهبه ، ونشر ظلامه ، فإنهم كانوا يوقدون النيران فى أكثر من مكان واحد .. ويهيئون العشاء فى قدور تغلى ، ويتصاعد من تحتها الدخان .. ! ورأيت فى ناحية من المكان عجوزا ، براقة العينين ، تحرك بيدها مجرافا طويلا ، وتذكى النار فى الموقد .. وعينها على جدى يناطح خروفا .. ! وامرأة قصيرة القامة تلقى بعض الحشائش للعنزات .. وأخرى ترضع صغيرا .. وصبية يتصايحون .. بين البط والدجاج والكلاب ، التى لم يكن فيها كلب واحد ينبح ، أو حتى يحرك ذنبه .. !
وكان هناك رجل كث الشارب ، أحمر البشرة ، له وجه شيطان وجسم ثور ، يفتل حبلا طويلا من الليف ، ويصعد بصره فى السماء من حين إلى حين ..
وكانت صاحبتى قد دخلت الخباء ، ثم خرجت منه ، وتبادلت مع ذلك الثور الضخم بضع كلمات .. ثم انتبذت ناحية ، وجلست وحدها ساكنة ، وعينها إلى نخيل القرية السامق ، وهو يتمايل مع نسيم الغروب ..
***
كنا نسقى الأرض العالية من الحقل ، وكانت القناة الرئيسية ممتلئة إلى حافتيها بالماء ، وكنت أمر عليها ، وأقوى الأماكن الضعيفة منها ، وأعمق القاع ، وأجرف الطين ، وأزيح الأعشاب ..
ولمحت الفتاة قادمة من بعيد .. مالت عن الجسر ، وسارت فى الطريق الصغير بين الحقول ، وكانت تمشى الهوينا كعادتها ، وتسوق أمامها قطيعا .. قطيعا عجيبا .. كان خليطا من الغنم والأعنز والبط ، وبعض الطيور الأخرى .. وكان الوقت ظهرًا ، والقيظ شديدًا .. وكانت تلوح بعصاها ، وتنزل بها على ظهر الغنم .. وترد الأعنز إلى الطريق ..
وكانت تمشى الوجى ، وملامحها ساكنة ، ووجهها فى لون البرنز وفمها الدقيق مفتوحًا .. ونفسها مبهورًا ، وقدماها عاريتين .. ولقد أشفقت على هاتين القدمين الصغيرتين ، وهما تصليان نار الأرض ، فى تلك الساعة من النهار .. ووددت لو أفرش لها الطريق بالسندس ، أو الإستبرق .. !
وقفت على مدى أذرع قليلة منى .. وورد القطيع الماء .. مدت الأغنام والعنزات أعناقها وقفز البط إليه .. وكنت محولا وجهى عن الشمس ، ويدى على الفأس ، وعينى إلى الأفق .. وشعرت لأول مرة فى حياتى باضطراب شديد ..
أنا رجل من لحم ودم .. رغم كل شىء .. ورغم ما فى من قوة الأعصاب.. وأنا وإن كنت ريفيا خشنا لم يخفق قلبى خفقة الوجد ، ولم أنعم فى ظلال الروض بنسيم الحب وشذاه .. ولكنى رجل .. رجل فى ربيع عمره، من لحم ودم .. ذاق قسوة الحرمان عدة سنين .. !
ولهذا شعرت عندما اقتربت منى هذه المرأة ، وامتزجت أنفاسها بأنفاس الزرع المحيط بى ، بأن يدًا من الفولاذ تعصر قلبى .. فوضعت الفأس على كتفى ، وتركت المرأة وحدها، ودخلت الحقل ، وأخذت أضرب فى الأرض ، وعيناى لا تريان شيئا ، وجسمى يسيل عرقا .. وظللت على ذلك مدة خيل إلى أنها طويلة جدا..
وتنبهت على صوت المياه ، وهى تتدفق بجوارى ، وتسيل تحت قدمى .. فأسرعت إلى خارج الحقل .. فوجدت القناة قد تقطعت فى المكان الذى كان يشرب فيه القطيع .. وكانت الفتاة واقفة فى مكانها تضحك .. !
فقلت لها فى غيظ وخشونة :
ـ أهذا مضحك .. ؟
ـ ليس أمتع منه منظرًا .. !
ـ اذهبى بغنمك وعنزاتك .. إن هذا جهد تسعة رجال من لحم ودم .. اذهبى ..
فظلت فى مكانها ، ساجية الطرف ، تضحك !
ـ أقول لك اذهبى .. اذهبى إلى جهنم بغنمك و ..
ـ أنا أشرب من النيل .. والنيل ليس ملكك ، ولا ملكا لأحد .
فلوحت بذراعى ، وصحت فى وجهها وصوتى يرعد من الغضب !
ـ النيل هناك .. وإذا جئت إلى هذه القناة مرة أخرى سأقطع رأسك بهذه الفأس .. !
فبقيت فى مكانها ساكنة ، ووجهها باسم ، لم يكن هناك شىء يخيفها ، أو يفزعها .. ! وكنت قد سددت القطع ، وسكن جائشى ، وعاودنى بعض الهدوء .. وكانت تلاحظنى ، وأنا أجرف الطين ، بعينين ذابلتين ، شبه مسبلتين، ولكنهما تلمعان ، ويبدو فيهما من حين إلى حين .. ذلك البريق الخاطف الذى لا تراه إلا فى نساء « النور » ..
هزت عصاها ، وساقت القطيع .. تقدمت به نحوى ! ووقفت أمامى فى الناحية الأخرى من القناة ، وكان خداها يرف لونهما ، ويذوب فيهما شعاع الشمس ، وشفتها السفلى فى لون الدم .. ! ورفعت أهدابها ، وقالت فى صوت كالهمس :
ـ أعطنى بعض الحشائش للعنزات .. !
فأشرت بيدى إلى الحقل ، وقلت لها فى صوت جاف :
ـ الحقل أمامك ، فورقى منه ما تشاءين ..
ـ لا أعرف .. !
ـ ماذا ؟! ...
ـ لا أعرف .. أنا لست فلاحة ..
ـ أنا أعرف أنك بنت العمدة ! .. ومن تكونين إذن ؟ ..
ـ أنا غجرية ! ..
ـ نورية ؟ ..
ـ نورية ! ..
ـ ومتى ترحلون .. !
ـ لا ادرى .. ولا حتى طوفان يدرى .. !
فأدركت أن طوفان هو ذلك الثور الهائل الذى كان يفتل الحبل ، ولا شك أنه زعيم القافلة .. ! ورجلها أيضا .. !
ودخلت الحقل ، وخرجت منه بحزمة ضخمة من الحشائش ، وألقيتها تحت قدميها ..
وقلت لها :
ـ خذى .. واذهبى عنى ..
ـ أنا لست قوية مثلك .. ولا أستطيع حمل هذه .. !
ـ إنها ليست أثقل من الجرة ..
ـ ولكننى لا أستطيع حملها ..
ـ سترين .. !
وعبرت القناة ، واقتربت منها .. واقتربت منى .. ورفعت طرفها .. وصوبت عينيها إلى أعماق عينى ..
وأخذنى ما يشبه السعار عندما لمست يدى ذراعها .. ووضعت الحزمة على رأسها فى قوة ، فرفعت أهدابها ، وركزت بصرها .. وظلت على ذلك برهة .. ثم حولت وجهها عنى ، ومضت تحت وهج الشمس الحامية ..
***
تعلق قلبى بها بعد هذه المقابلة ، وأخذت أفهم بوضوح سر نظرتها .. وأتبين الرغبة فى أعماق عينيها ..
كانت قد هزت شيئا كامنا فى أعماق نفسى .. وحركت غريزتى بعد طول سكونها ، وطول خمودها .. عندما تبتعد عن المرأة ، وتشغل عنها بالعمل الشاق ، لا تعود تفكر فيها إلا تفكيرا عارضا.. وقد تطرحها وراء ظهرك وتنساها كلية .. !
ولكن ويل للرجل القوى الجسم ، الكامل الرجولة إذا حامت حوله امرأة .. وألقت عليه شباكها.. ووقع تحت سلطان نظرتها النهمة .. ويل له من العذاب المضنى ، والألم الشديد ، والقلق المستبد ، والأرق الذى لا نوم بعده ..
كنت أضع جنبى على الأرض ، ولا أتحرك طول الليل ، ولا يمر بى حتى طيف حلم .. ! أما الآن فأنا أتقلب طول الليل على جنبى ، وأتمثلها بنظرتها ورغبتها .. وأحلم بأنها بين ذراعى ، وأنى آخذها فى أحضانى .. ! لقد أخذ نظرى يشرد ، وعقلى يضطرب ، وجسمى يثور ، وروحى تتعذب ، وجو حياتى كله قد تكنفته الشياطين .. !
***
اشتد على الأرق فى ليلة من الليالى ، وثارت ثورة الدم فى جسمى ، فغادرت المنزل ، ومشيت على الجسر ، وكان الليل ساكنا ، والظلام مخيما ، والقرية كلها غارقة فى سبات عميق .. ولا شىء يقطع هذا السكون غير نباح الكلاب بين الفينة والفينة ..
ومضيت على الجسر حتى ألفيت نفسى واقفا بإزاء خبائها .. إنها نائمة الآن .. ربما فى أحضان ذلك الثور .. أو ساهرة وحدها تعد النجوم .. ويممت وجهى شطر الحقول ، ووجدت نفسى أمضى سريعا كأنما أساق إلى غاية .. وأخذت عينى الشواديف ، وهى قائمة فى فحمة الليل كالأشباح .. ومشيت على النيل ، ولمحت قلوع المراكب البيضاء ، وهى ترتعش فى جوف الظلام ..
وطالعنى الجمال والسكون من كل جانب .. سكون النيل .. وسكون الروض .. وسكون الليل .. ولكن لا شىء يسكن ثوران جسمى ، ويهدئ فورة الدم فى شرايينى ! .. لا شىء .. !
اضطجعت فى بطن القناة .. وعينى إلى نجوم الليل البراقة .. وأذنى إلى كل حس .. إلى حس إنسان .. إلى صوت امرأة .. ومضت ساعة .. وأنا مرهف سمعى .. وبصرى لا يتحول عن الطريق ..
وسمعت حسًا ، سمعت صوتًا كالهمس ، فرفعت رأسى ، وشخصت ببصرى .. وكان النور قد بدأ ينتشر .. وتبينت نساء فى الطريق إلى النيل .. لقد بدأن يملأن الجرار .. وستجىء هى .. بعد هؤلاء أو بعد سواهن .. وعادت النسوه إلى القرية ، وجاء غيرهن .. ومضين .. ولم يأت بعدهن أحد ..
أنقطعت الرجل .. واشتد السكون .. ورأيت سوادا ينحدر عن الجسر .. نهضت بصدرى وأرسلت عينى .. وظللت معلقا بصرى بهذه المرأة حتى اقتربت وتوضحتها .. إنها هى .. ولا أحد يتأود فى مشيته مثلها .. ولا أحد يجىء وحده سواها .. ونهضت من مكانى ، واندفعت فى سرعة البرق إلى الحقل .. !
وحملت فأسا على ظهرى ، ومضيت إلى رأس القناة ، وأخذت أضرب فى الأرض .. ! ونظرى يرتفع عن الأرض ، ويستقر على الطريق .. وكانت تسير هادئة ساكنة ، ولما اقتربت منى سمعت صوت الفأس .. فمالت برأسها ، وتمهلت فى سيرها لحظة .. ثم استأنفت السير حتى اقتربت منى جدا ..
وقالت:
ـ آه .. أهذا أنت ؟ .. إنك لا تنام كالشياطين .. !
فلم أرد عليها ، وأخذت أضرب فى الأرض ..
ـ أتعمل فى هذه الساعة .. إن النور لم يطلع بعد .. !
ـ يجب أن أهيىء القناة قبل أن تدور الشواديف .. »
ـ ولكن هذا جهد شاق .. شاق جدا .. يضر بك ويفنى قوتك ..
ـ إن هذا لا يضر .. ولا شىء يفنى قوتى إلا الموت ..
فابتسمت ، ومضت بالجرة ونزلت إلى النيل .. ألقيت الفأس .. ووقفت على رأس المنحدر أرقبها بعينين زائغتين .. وطلعت ، ورأتنى واقفا كالناطور .. ! فوضعت الجرة على حافة الطريق لتصلح من ثوبها ..
وقالت :
ـ لماذا تقف هكذا .. أتريد أن تستحم .. ؟
ـ أجل ..
ـ فى طريق النساء .. إنك شيطان .. !
ـ لقد انقطعت الرجل .. وسأذهب بعيدا .. دعينى أساعدك على حمل الجرة ..
ووضعت يدى على يدها ، وهى ممسكة بأذن الجرة .. وسرى فى جسمى اللهب ..
نظرت إلىّ .. وأدركت ما يدور فى خاطرى .. وشددت على ذراعها ..
فقالت :
ـ دعنى أمض .. لماذا تنظر إلى هكذا .. دعنى أمضى ..
وكانت تهمس ، ولكنى شددت على ذراعها بقبضة من فولاذ .. وحملتها.. وفى سرعة البرق دخلت بها الحقل ..
***
وقالت لى وهى تحمل الجرة عائدة إلى القرية :
ـ إنك وحش .. ولكنى أحب الوحوش .. !
***
ومرت الأيام ، وكانت مستسلمة بكليتها لى ، وشاعرة بنشوة لا تصور ، وكانت تأخذ منى كثيرا ، ولا آخذ منها شيئا .. ولم تكن من أولئك النساء اللواتى يشعرن بعد الجريمة بعذاب القلق ، ويقظة الوجدان فيرحن يقطعن حسرات ويرسلن العبرات .. ! لم تكن من هؤلاء فى شىء ، بل كانت تزداد على الأيام فجورا وسعيرا ، وازداد معها نزقا وطيشا ..
عندما كنت صغيرا ، كنت أخرج مع لداتى من أبناء قريتى إلى النيل ، ونتسلق صوارى المراكب إلى أن نصل إلى قمتها .. ونقفز من هذه القمة إلى الماء .. ونغوص إلى القاع حتى تلمس أقدامنا الوحل .. ! ثم نشب بعد ذلك فى بطء ، ويصافح وجهى سطح الماء فأنفض رأسى ، وأنا شاعر بدوار لذيذ .. ! وهذا هو حالى مع هذه المرأة ، فأنا غائص إلى الأعماق ، وشاعر بنفس الدوار ..
كان جسمها من السعير ، وكانت روحها تتلظى أبدا فى النار ، وكنت كأنما شددت إليها بسلاسل من الحديد ، فما من فكاك ..
وكانت روحى تستيقظ من حين إلى حين ، فأشعر بعذاب قتال ، لقد كنت ناعم البال ، قرير العين ، مثلوج الفؤاد ، قبل أن ألتقى بهذه المرأة ، فلما التقيت بها ، لفتنى العاصفة الهوجاء فى طياتها ، وكدت أذهب مع الريح .. !
ولقد كان الرفاق يذهبون جميعا للصلاة فى يوم الجمعة ، وكنت أتخلف وحدى .. فما كنت أستطيع أن أذهب معهم ..
كان جسدى قد سقط ، وروحى قد تلوث ، فكيف أقف أمام اللّه كما كنت أقف من قبل .. ويل لى من العذاب .. كنت أتبع الرفاق ببصرى ، وأنا واقف فى مكانى كالمنبوذ ، وأود لو أتمرغ فى التراب .
***
كانت الشواديف دائرة على أشدها ، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب ، وفعل نسيم الغروب فى أجسامنا فعل السحر ، فازددنا نشاطا وقوة .. ودارت الشواديف فى جنون ، وكنا ، نغنى ونشيع النهار المولى ..
وسقط أحد الشواديف فجأة ، مالت قوائمه ، وتحمل عجزه على الأرض .. وصعدت مع أحد الرفاق لرفعه .. وفيما أنا أدور ، وعلى صدرى هذه الكتلة الضخمة من الطين ، زلفت رجلى وسقطت إلى أسفل .. وجرحت جرحا بليغا واختلط الدم الغزير بالماء .. وغدا كل شىء أحمر ..
وكفت الشواديف عن الحركة .. ونظر إلى الرفاق فى ذهول ، وشفقة وألم .. وحملونى إلى البيت ..
وكان عباس أقوى الرجال من بعدى .. فاحتل مكانى ، وأدار دفة العمل أثناء مرضى ..
***
وطالت أيام مرضى .. فلم يكن هناك علاج ولا طب ، فقد تركت نفسى لرحمة الأقدار ..
وتطور الجرح ، وأصبت بالحمى ، وكنت أهذى طول الليل فى غرفة حقيرة قذرة ليس فيها نور ، ولا هواء ، ولا تراها عين الشمس .. فلم يكن فيها غير منفذ واحد ، وهو بابها الصغير .. ! وكانت الحشرات تمرح فيها فى الليل ، والذباب يملأ جوها فى النهار ، والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان ..
وكنت ملقى على حصيرة قذرة فى ركن من الغرفة .. وتحت رأسى وسادة أقذر منها .. فأى عذاب وألم ، وأى حياة يحياها الريفى المسكين.. ! إنه إذا عاد من الحقل ، ودخل البيت ، أو ما يسمى بيتا شعر بالاختناق ، ولكن حسه يبلد على مر الأيام ، وعينه تألف القذارة ، كما يتعود بطنه الجوع .. فإذا مرض أرهف حسه ، ورجعت إليه مشاعره من جديد، وذكر المدينة وما يجرى فيها .. وراح يتصور القصور الشامخة ، والحدائق الغناء .. والمستشفيات والأطباء فى كل مكان فى المدينة .. وتفتحت آفاق نفسه ، وتاقت لأطايب الحياة ومناعمها ، وتحسر على ما مضى من عمره فى فقر وعذاب .. وأحس بالألم ، وويل للمظلوم إذا شعر بأنه مظلوم ..
كنت أقضى الليل ساهرًا ، وأفتح عينى فى الظلام ، وأحس بعباس وهو يتسلل من الغرفة فى أخريات الليل .. وأسائل نفسى إلى أين يذهب ..! فإذا رجع نام كالقتيل .. ! أهو عائد من عندها .. ؟ لقد كنت أنام هكذا .. بعد كل موعد معها .. فمن المحتمل جدا .. أنها أوقعته فى حبالتها .. وهى تواعده كل يوم كما كانت تواعدنى ، وتأخذه إلى نفس المكان .. ! فيالسخرية الأقدار .. كنت أدور ببصرى فى الغرفة كالمجنون حتى أستقر على وجهه ، وأود لو أعرف الحقيقة ، الحقيقة ليس إلا .. فقد كان الشك ينهش قلبى ..
***
وكان أول شىء فعلته بعد أن قويت على السير ، ورجعت إلى بعض قوتى ، أنى ذهبت إلى الحقل مبكرا لأراها .. ورأيتها وحادثتها وواعدتنى ، وجاءت فى هذه المرة فى نصف الليل ، ولم تبق طويلا .. وكانت تنظر إلى عينى فى استغراب ، ولم أدرك سر نظرتها ..
وقابلتها بعد ذلك مرات ، وكانت فى كل مرة لا تمكث سوى دقائق قليلة ، وتتعلل بالأكاذيب ..
وذات مرة أمسكت بذراعها ، وقلت لها فى غضب :
ـ ما الذى جرى يا ناعسة .. لقد تغيرت .. لماذا لا تمكثين غير لحظات ، وتمضين لطيتك .. ؟
ـ إن طوفان بدأ يلاحظ .. وأنت تعرف الثور عندما يثور .. !
وكانت تكذب ، فليس لطوفان ، ولا ألف رجل من أضرابه حساب فى نظرها ، وما من شىء كان يخيفها ويحول بينها وبين رغباتها ، وما من إنسان تخشاه .. فقد تقمصتها روح شيطان .. ولكننى تغيرت فتغيرت .. ملت وضجرت ، لأنها لم تعد تحس بقوة سواعدى ..
***
ورأيتها ذات مساء تديم النظر ، فى سكون ، إلى عينى ، ثم تولى وجهها مفزعة .. !
فسألتها :
ـ لماذا تنظرين إلى هكذا .. ؟
فعاد الهدوء إلى وجهها ، وارتسمت على فمها ابتسامة باهتة ، وظلت صامتة ..
ـ لماذا تنظرين إلى عينى هكذا .. ؟
وهززت ساعدها .. فقالت فى صوت كالهمس :
ـ أرى فى عينيك شيئا رهيبا .. !
ـ ما هو .. ؟
ـ لا أستطيع أن أبوح لك به الآن .. دعنى أمض ..
ـ لن أدعك تذهبين .. حتى .. حتى ..
ـ إنك مخبول .. دعنى أمض .. لا شىء فى عينيك ..
ومضت فى جوف الظلام ..
***
وسرت وراءها ذات ليلة .. وأحست بى فتوقفت عن سيرها ، وتقدمت حتى وقفت أمامها ، وأمسكت بذراعها ، فأفلتت ذراعها من يدى بقوة كمن أصابته لدغة عقرب .. ! وفى مثل لمح الطرف انقلبت ملامح وجهها إلى وجه نمرة .. !
وقالت بصوت يرتعش ، وهى ترسل من عينيها نارا :
ـ ما الذى تريده .. ؟
فأرسلت يدى إليها مرة أخرى ، فصرخت فى وجهى :
ـ ابتعد عنى .. لا تلمسنى أيها القذر .. !
شعرت بغيظ شديد ، وتلفت حولى فلم أجد إنسانا .. ليس هناك سوانا ، ونظرت إليها نظرة مجنون .. كان قلبى يتقد من الغيظ ، وعيناى ترسلان وهجا من نار .. وأدركت ما يدور فى ذهنى ..
فقالت فى هدوء ، وشفتها السفلى متقلصة ، وعينها لا تتحول عن وجهى :
ـ هل تحسب أنك تخيفنى بهذه النظرة .. ! أنا لست ملكا لك ، ولا ملكا لأحد .. أنا حرة طليقة كالطير ، أطير فى كل مكان .. وما لأحد سلطان على .. وما من شىء يخيفنى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق يوما إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
ومضت عنى ، واحتواها الظلام ، وبقيت مسمرا فى مكانى ، ملصقا بالأرض ، كأنى أحد النواطير القائمة فى الحقل لتخيف العصافير ..
***
ونضج حقل الذرة وأخذنا نقطع الكيزان ، ونكومها فى طرف الحقل .. وكان ثلاثة منا يبيتون فى الغيط مناوبة ، ومعهم سلاحهم ، وكان الحقل قد قطع نصفه وبقى نصفه ، الآخر قائما .. وكان علينا النوبة ، أنا وصاحبى عباس ، ورجل ثالث ..
وكانت الليلة مظلمة ساكنة الريح ، ففرشنا الزكائب وتمددنا عليها ، وأعيننا تحصى النجوم فى السماء .. وآذاننا إلى كل حس .. وكانت رقعة السماء منبسطة ، والنجوم تتهاوى فى ثلث الليل الثانى كالشهب ، وكان النيل قد فاض .. وأخذت الضفادع تنقنق .. احتفالا بفيضانه .. ! واعتمد رفيقنا الثالث على حزمة من القش ونام ، وبقيت أنا وعباس نتحدث .. وكان بين الفينة والفينة يرفع بصره إلى الطريق .. ثم يضع رأسه على الزكيبة .. وأكثر من هذه الحركة ..
فسألته :
ـ لماذا تدور ببصرك هكذا .. ؟
فقال :
ـ أخاف على الناقة .. »
وكانت باركة .. على مسافة منا ..
فقلت له :
ـ لا تخش شيئا .. بركها هنا .. على مرمى البصر منا ..
فنهض وأخذ بخطام الناقة .. وعينه تتلفت كأنه يبحث عن شىء .. ثم أناخها عن قرب .. وعاد فتمدد ..
وأخذنى النوم ، وصحوت فتفقدت رفيقى فلم أجده بجوارى ..
ودرت فيما حولى .. ولمحت امرأة خارجة من الحقل .. مضت فى الطريق وهى لا تتلفت .. ورفعت وجهى ، وعرفتها .. لقد كانت هى بعينها ، بلحمها ودمها ومشيتها ، ولا أحد يمشى غيرها ، فى غلس الليل ، وليست هناك امرأة تركب الخطار مثلها .. فى سبيل إرضاء رغبتها ..
وسحبت البندقية من تحتى ، كنت فى حالة هياج وخبل .. وكانت الغيرة العمياء قد تملكتنى .. لماذا لا أقتل هذه الحية ، وأريح البشرية من سمها ؟..!
انها قتلتنى ، وستقتل عباس من بعدى .. ثم ترمى حبائلها وشباكها إلى رجل آخر .. وتأخذ من كل رجل كل قوته .. فإذا ضعف أمامها لفظته ، وطرحت به بعيدا .. وكم قتلت من الرجال قبلى ، وكم ستقتل من بعدى ..
وجذبت الأكرة ، وسمعت حركة الرصاصة وهى تستقر فى الماسورة ، وصوبت وسددت ، وبقيت ثانية أرتعش ، ورأيتها تتلفت ، أدارت وجهها... ورأيت عينيها ، بعين الخيال ، تنظران إلىّ فى قوة ..
وهى تقول :
ـ لا أحد .. يستطيع قتلى .. وما من شر يصيبنى من إنسان .. أما أنت فستساق إلى المشنقة بين صفين من الجند .. !
وغامت عيناى .. وسمعت صوت رفيقى الثالث وهو يقول :
ـ ما الذى جرى يا نعمان .. أترى شيئا .. ؟
فأجبته فى صوت يرتعش :
ـ ألمح ظل ثعلب .. وكنت أود أن أصطاده ، ولكن اللّه أراد أن يذهب إلى سبيله .. !
ووضعت البندقية فى مكانها ، بعد أن أخرجت الرصاصة ..
وجاء عباس .. بعد مدة .. وعندما لمحته قادما من بعيد تناومت .. وحدق فى وجهى طويلا ، ثم ارتمى على كوم من القش ونام ، دون حس ولا حركة ، كأنه كان يقطع الأحجار طول النهار فى المحجر .. !
***
انتهت أيام العمل وعدنا نتبطل ونركب الحياة بشبابنا ..
وكان أحد أبناء الأعيان سيتزوج .. ولما كان محبوبا ووحيد أبويه ، فقد عم الفرح كل بيت فى القرية ، وكان الفرح قد بدأ قبل الزفاف بأسبوع بالرقص على الخيل ، ولعب العصا من العصر إلى الغروب ، وبعد العشاء يدور السامر إلى الفجر ..
وأعدوا أرضا منبسطة فى خارج القرية لذلك ، ولما كنت من اللاعبيين بالعصا ، فقد كنت أذهب إلى هناك ، عندما أسمع أول ضرب للطبل ، وأول صوت للمزمار ..
وكنت قد شفيت تمامًا ، ورجعت إلى قوتى ، وتطلعت إلىَّ الأنظار ، فقد كنت أبرع من دار بالعصا فى حلقة ، وكان عباس أيضًا من البارعين فى هذه اللعبة ، ولهذا كان يلاعبنى كثيرًا ، على أن الغلبة كانت لى دائمًا .. وظللت بطل الميدان ، ومحط الأنظار ، وكان سرورى بذلك عظيما ..
وكان السامر يبدأ بعد العشاء ، وتشعل النيران لتحمى بها الدفوف ، ثم يدور الرقص فى ضوء القمر ، وتحت نوره الفضى ، ويزمر الزامرون ، وترقص الراقصات ، والسامر كله يصفق فى مرح وحبور .. وتتثنى الراقصات ، ويدرن فى الحلقة ، يوزعن البسمات على الجالسين ، ويجمعن النقود .. !
***
وجاءوا بناعسة ذات ليلة .. وكانت ترقص مسبلة العينين ، مفتوحة الشفتين ، كأنها فى نوم هادىء تتخلله ألذ الأحلام .. ! وكان جسمها يتلوى ويتثنى ويدور ..
وكان عباس فى الصف الأول من الحلقة ، فكانت تدور إلى أن تحاذيه ، فتقف أمامه ، وتطيل الوقفة ، وهى تميد وتتمايل ، وعلى ثغرها ابتسامة مغرية .. ثم تميل عليه ، وتأخذ منه النقود بفمها ، وتبتعد عنه لتقترب منه ، وتدور فى السامر كله ، وعينها لا تتحول عنه .. وكنت أشاهد هذا بعينين سادرتين .. وكانت تمر أمامى ، ولا تكاد تتوقف ، ولا تكاد تحس بوجودى .. فكان الغيظ يدفعنى إلى أن أحمل على السامر ومن فيه ، وأحطم كل شىء تحطيما ..
وانفض السامر ، ومشيت إلى البيت مخذولا كسير القلب .
***
وابتدأ لعب العصا فى اليوم التالى .. وكان عباس يلاعبنى ، وصورة الأمس لا تزال فى مخيلتى .. كنت أتمثلها وهى تدور به ، وتتثنى حوله ، وتكاد ترتمى بين ذراعيه أمام الناس .. !
دار بالعصا فى الحلقة ، وعيناى لا تفلتانه ، ولوح كل منا بعصاه .. ووضعها على الأرض .. ودار .. ودرت .. وتقدم .. وتقدمت .. وتشابكت العصوان .. وضربنى ضربتين تحت إبطى .. وشعرت بالذلة .. وكان الغضب ، وما حدث فى اليوم السابق قد أعميا باصرتى فلم يكن لعبى إلا لغوا .. وفقدت كل قدرة على التوجيه .. وكنت لا أرى إلا صورة الأمس ..
صورة تلك المرأة الملعونة التى ستذهب بشبابى .. ورأيت ذراعيه تلوحان بالعصا .. ولم تكونا فى نظرى تلوحان بالعصا .. بل كانتا تدوران حول ناعسة .. ولا شىء غير هذا .. !
ودار وضربنى ضربة قوية .. وضج السامر .. فضربته ضربتين ولكنه تلقاهما على عصاه .. فزادنى ذلك غيظًا .. وخرجت عن طوقى .. وكان محتفظًا بحواسه كلها .. وضربنى ضربة أخرى نزلت تحت ابطى .. واحمرت عيناى .. وتراجعت إلى الوراء وضربت بكل قوتى .. ضربة واحدة .. حطت على صدغه .. وسقط .. واستولى الذهول على الناس .. وانقطع صوت المزمار .. !
***
ووضعوا الحديد فى يدى ، وساقونى وحولى نطاق من الجند إلى المركز ..
وسرنا على جسر القرية الطويل ، مع الشمس الغاربة ، فى سكون وصمت .. ولمحت ناعسة عن بعد نازلة إلى الطريق ، وسائرة إلى النيل تتهادى على مهل ، وعلى رأسها جرتها .. كانت تمشى الهوينى كعادتها فى سكون وهدوء ظاهرين ، كأن لم يحدث شىء .. !
إنها المرأة .. إنها الحياة الماضية فى طريقها لا تعبأ بشىء مما يجرى من أحداث ..
================================
نشرت القصة فى مجموعة " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى سنة 1944 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================
عضة الكلب ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
عضة الكلب
قصة محمود البدوى
فى شتاء عام 1964 نقل طبيب الأسنان الدكتور " حسن بهجت " من القاهرة إلى وحدة صحية فى الريف ..
وكان الطبيب الشاب على عكس الأطباء الذين هم فى سنه .. والذين ينقلون من المدينة إلى الريف دون رغبة .. ودون تمهيد .. فيشعرون بالمرارة والضيق النفسى والقلق .. كان على عكسهم تماما .. فقد شعر بالبهجة .. والتفتح النفسى والتطلع الواسع .. وكان فى أعماقه يتوق إلى هذه التجربة الحية .. إلى العيش فى قلب الريف .. مادام قد عاش إلى هذه اللحظة مدنيا صرفا .. ليخرج بشىء لايجد مثله فى الكتب .
ولما كان غير متزوج فقد أقام فى السكن المخصص له بالوحدة .. وكانت القرية التى تقع فيها الوحدة من القرى الكبيرة والمواصلات إليها سهلة .. فهى قريبة من محطة السكك الحديدية .. ومن الطريق العام لسيارات الأجرة .. وأهلها وادعون مسالمون يشتغلون بالزراعة وتجارة المواشى .. وفيها سوق كبير يتجمع فيه أهل القرى المجاورة فى يوم الإثنين من كل أسبوع .. ويتبادلون السلع بكل الوانها وأشكالها ..
***
ولاحظ الطبيب الشاب شيئا فى المرضى الذين يترددون على الوحدة .. شيئا لم يلتفت إليه أولا .. ثم شد انتباهه بعد أن برز بوضوح كطلعة الشمس ..
لاحظ ندبة فى الصدغ الأيمن من كل رجل يدخل الوحدة .. ورأى أن الندبة برزت وأصبحت كالدمل المقروح فى وجوه الرجال فقط .. ولم يرها فى وجوه النساء والأطفال ..
وأدركه العجب وخرج يمشى على جسر القرية وبين دروبها ليتأكد مما شاهد فوجد الندبة ظاهرة فى وجوه الرجال .. وبارزة بوضوح .. واضطر بعد هذا التعميم أن يسأل أحد مرضاه عن سببها فعرف أنها عضة كلب .
ودخل شيخ البلد العيادة فرآه الطبيب وفى صدغه العضة .. فسأله فى استغراب :
ـ حتى أنت ياشيخ على ..؟
ـ حتى أنا يادكتور .. لم يترك الكلب رجلا فى القرية إلا عضه .
ـ الرجال فقط ..؟
ـ أجل .. وبفراسة شديدة .. اختار الرجال لفعلته وترك النساء والأطفال .. لم يقترب من أحد من هؤلاء .
ـ ومتى حدث هذا ..؟
ـ منذ أكثر من سنتين .. وبنظام وترتيب .. بدأ بالذين فى البيوت والدروب ثم خرج إلى الغيطان .. وكان يثب كالليث .. ويتخطى الحواجز .. ولم يعض إنسانا مرتين أبدا .. فعلها مرة واحدة .
ـ وقتلتموه ..؟
ـ أبدا .. لقد كان فى ضراوة الأسد وشدة بأسه .. فمن الذى يجرؤ على الاقتراب منه .. إنه هو الذى كان يستطيع قتلنا .. ولكنه اكتفى منا بترك هذه العلامة .
ـ وهل لايزال فى القرية ..؟
ـ أبدا .. خرج فى ليل ولم نعد نراه ..
وشغلت هذه الظاهرة العجيبة بال الطبيب .. واستغرقت كل تفكيره .. وكلما مشى على الجسر وشاهد الفلاحين العائدين بدوابهم من الغيطان .. والسائرين فى الدروب وعلى وجوههم نفس الندبة فى الصدغ الأيمن يتعجب ويتساءل .. قد يكون كلبا مسعورا ككل الكلاب المسعورة .. انتابته حالة سعار من مرضه .. ولكن لماذا التعميم والتخصص ..؟ أهو شيطان فى جسم كلب ..؟
وأخذ الطبيب يسأل الموظفين فى الوحدة وزملاءه الذين جاءوا إلى القرية فى زمن قبله .
فعلم أنهم هبطوا القرية ووجدوا أهلها على هذه الصورة .. ولم يشغلهم الأمر أو يستلفت نظرهم لأنهم ظنوها خلقة طبيعية .. ومنهم من سمع أنها عضة كلب .. ومرت الأيام وألف من فى الوحدة هذه الوجوه على حالها .
***
ولكن الدكتور بهجت .. ظل فى حيرة من أمر هذه الظاهرة .. وتعجب كيف تكون عند الكلب هذه القدرة على ترك هذه العلامة فى رجال القرية جميعا أمام سطوته ..؟ وهم يعرفون أنه يطاردهم فى كل مكان .. قد تكون عضة واحدة فى صدغ رجل واحد وانتقلت بالتصور إلى جميع الوجوه .
***
وأخيرا قرر الطبيب أن يصلى الجمعة فى مسجد القرية الذى يجمع صورا مختلفة من أهلها .. الشيوخ والشبان .. ليتأكد من هذه العلامة الغريبة .. ولما دخل المسجد رأى الندبة برسمها وحجمها على وجوه المصلين جميعا .
وخرج المصلون من الجامع .. واختار الطبيب أكبر المصلين سنا .. وكان شيخا وقورا ..
مال به الطبيب إلى جلسة تحت المحراب وسأله وهو يشير إلى صدغه :
ـ وهل هذه الندبة عضة كلب أيضا .. ياشيخنا الكبير ..؟
ـ أجل .. يادكتور ..
ـ إنه شيطان إذن مادام يعض الصالحين المتوضئين من أمثالك ..
ـ إنه ليس بشيطان .. إنه نذير ..
ـ وهل إذا رأيت الكلب تعرفه ..؟
ـ بالطبع أعرفه .. وكل القرية تعرفه .. لقد كان من كلاب القرية .. وأخذه " عبد الجابر السحلاوى " وأصبح من زمرة كلابه .. إلى أن حدث ما حدث واختفى الكلب بعدها ..
ـ وما السبب الذى أهاج الكلب .. لقد سألت الكثيرين فلم أعرف السبب الحقيقى .. الأقوال متضاربه ..
ـ الناس يشعرون بالخجل يادكتور .. من تصرفاتهم .. عقدة الذنب .. استقرت فى أعماقهم .. فمنعتهم من الكلام .. لأن فى التصريح بالكلام ورواية الحقيقة عارا .. وعارا أبديا .. على أهل الريف .. أهل الريف الذين عاشوا طول عمرهم يتعاونون فى السراء والضراء .. ويغيثون الجار ويدافعون عن المظلوم .. ولكنهم تغيروا الآن يادكتور .. وانقلب حالهم .. وتسلطت عليهم الأنانية فى بشاعة .. حتى لاتجد فيهم من مروءة الرجال من يذوذ عن امرأة مسكينة .. لقد اقتص الكلب من أنانيتهم وانشغال كل منهم بحاله .. غافلا عن حالة أخيه .. مادام لايصيبه من أمرها مكروه .. فكر فى السلامة لنفسه .. ولم يفكر فى سلامة الآخرين الذين يعيشون بجواره وفى حضن قريته وزمامها ..
لقد كان " عبد الحافظ " مدرسا فى المدرسة الاعدادية بالقرية .. وغريبا عن أهل القرية .. جاء ليهديهم ويعلم أبناءهم .. ولكنهم خذلوه فى خسة وضعف .. أشفق المسكين على حالهم عندما رأى " السحلاوى " يستولى على ريع السوق ويتاجر فى سماد الجمعية المخصص لهم .. ويسرق قوتهم وقوت عيالهم .. ويسيطر على كل شىء بنفعية وتسلط .. فحرك الفلاحين ليقفوا فى وجهه .. ويطالبوا بحقهم .. ولكنهم تخاذلوا فى ضعف مشين ..
وطلب منهم أن يشتكوه لمن يرد لهم حقهم المسلوب .. ولكنهم كانوا يعرفون بالخبرة أن الشكوى لاتنفع وسترتد إلى صدورهم .. فسكتوا ..
ولم يرض " عبد الحافظ " بهذا وكتب هو الشكاوى بلسانهم .. ولكن الشكاوى كانت تموت لسطوة " السحلاوى " وكثرة معارفه من ذوى النفوذ ..
وعلم .. " السحلاوى " .. أن كاتب هذه الشكاوى هو " عبد الحافظ " .. وفكر فى الانتقام منه سريعا ..
وكان " عبد الحافظ " لأنه أعزب .. وليس من أهل القرية قد اختار مضيفة الحاج " حسانين " القريبة من المدرسة كمنزل إقامة ..
وكانت المضيفة قريبة من حوش البهائم الخاصة " بالسحلاوى " ومن منزله .. وعند " السحلاوى " كلاب شرسة مدربة على الحراسة ونهش من يقترب من البهائم .. وكل من سار فى الليل واقترب من حوش " السحلاوى " ومنزله يخافها لشراستها .. وكان " السحلاوى " لايريد اغتيـال المدرس الغريب مواجهة وإنما فكر فى تعذيبه وإذلاله .
وفى ليلة من ليالى الصيف أطلق عليه وهو نائم كلبا من كلابه الشرسة .. وشاءت إرادة الله أن يعرف الكلب " عبد الحافظ " ويحفظ له صنيعه عنده .. فقد أطعمه " عبد الحافظ " ذات ليلة من ليالى الشتاء الشديدة البرودة .. وأواه فى المضيفة .. وكان الكلب وقتها طريدا شريدا .
وعرفه الكلب .. فنام بجواره يحرسه بدلا من أن ينهش لحمه .. وجن جنون السحلاوى عندما رأى " عبد الحافظ " لم يمس بسوء .. وما كان يفعله مستخفيا .. أخذ يفعله علانية وهو فى حالة هياج .. فأخذ يضرب الكلب .. ويطلقه على المدرس .. ولكن الكلب لم يستجب له اطلاقا .. فرأى أن يضع مع الكلب كلبا آخر ليحرضه على افتراس المدرس المسكين الذى أخذ يستغيث بأهل القرية فلم يغثه أحد .. كانوا مشغولين بحالهم .. ويخافون من بطش " السحلاوى " فتخاذلوا عن غوث الغريب .
وأخذ " السحلاوى " بعين الوحش يرقب ما يجرى أمامه ولكن .. خاب فأله .. فقد افترس الكلب الأول الكلب الثانى وألقاه جثة هامدة .
ولمح " السحلاوى " عين الشر فى عين الكلب الأول فلم يقترب منه وإنما قرر أن يقتله بمسدسه .
وفى اللحظة التى فكر فيها أن يفعل هذا كان الكلب الأول قد وثب عليه وألقاه على الأرض .. بعد أن عضه فى صدغه تلك العضة .. ووضع فى وجهه تلك العلامة المميزة ..
وارتعب " السحلاوى " وغشى عليه .. ولما أفاق كان الكلب قد خرج من القرية ..
ولكنه عاد إليها وأخذ يعض الرجال من أهلها بالصورة التى رأيتها فى وجوههم .
وبعد هذه الحادثة لفق " السحلاوى " تهمة للمدرس المسكين ونقله من القرية ..
وسافر " السحلاوى " ليعالج نفسه من عضة الكلب وطال غيابه ..
وصمت الشيخ قليلا ليرى أثر حديثه فى وجه الطبيب الشاب ثم قال :
ـ هذه هى قصة " العضة " التى تراها فى وجوهنا يادكتور " بهجت " وأرجو أن تساعدنا أنت وزميلك الجراح على إزالتها ..!
ـ مع الأسف ياحاج .. لاأستطيع ذلك .. لاأنا .. ولا زميلى الجراح ..
ـ كيف .. يادكتور .. كيف ..؟
ـ لأنها من عملكم وخصائص نفوسكم .. ومتى تغيرتم ستزول ..
ـ بغير جراحة ..؟!
ـ بغير جراحة ..
وشكر الدكتور " بهجت " الشيخ الكبير على حديثه .. وأخذ طريقه إلى الوحدة ، وهو يفكر فى طريقة عملية ليخرج الخوف من نفوس هؤلاء المساكين الذين أصابهم الكلب بهذه الوصمة .. وتمنى أن يرى " السحلاوى " والكلب والمدرس وبعد هؤلاء الثلاثة سيعالج الخوف بطريقته .
***
ومع دوامة الحياة تصور " عبد الحافظ " أنه نسى ما حدث له .. ولكن تصوره كان خاطئا .. فقد كان الجرح عميقا وضاربا فى أعماق النفس .
وذهب يسأل عن " السحلاوى " فعلم أنه مات .. ومات مع قوته الانتقام .. ونسى عبد الحافظ ما حل ولكنه فوجىء بعد ذلك بمن يخبره أن " السحلاوى " حى وفى بلده .. فأشعلت فى نفسه جذوة الانتقام التى حسبها تحولت إلى رماد .. وقرر أن يغتاله فى نفس المكان الذى عذبه وأذله فيه .. نفس المضيفة .
وركب القطار إلى القرية بعد أن تسلح .. ووصل إلى بساتينها ساعة العصر .. ورأى أن يظل فى البستان إلى الساعة التى يختارها فى الليل للتحرك .
وبعد وصوله بأقل من ساعة شاهد جنازة طويلة تتجه إلى المقابر القريبة من البساتين .. فسأل عنها .. وعلم أنها جنازة " السحلاوى ".
وتعجب وقال لنفسه :
ـ مات " السحلاوى " فى اليوم الذى قصدته فيه .. ما أعجب الدنيا بتصاريفها ..
وتعجب أكثر من طول الجنازة وعرضها .. فقد خرج وراءه رجال القرية جميعا .
وردد لنفسه :
ـ إنهم يخافونه ميتا .. أكثر مما يخافونه حيا ..
***
ودخل " عبد الحافظ " فى خط الجنازة مع الرجال .. وتلفتوا بأصداغهم التى عضها الكلب .. وتهامسوا ..
ـ جاء المدرس .. يشترك فى الجنازة .. ونسى ما فعله فيه ..
ـ إنه نبيل ..
وفجأة اضطربت الصفوف المتراصة الواجمة .. ورفعت رؤوسها المنكسة .. وصاح الرجال :
ـ الكلب .. الكلب ..
وأصابهم الذعر .. ووضعوا النعش على الأرض .. وانطلقوا يمينا وشمالا فى الغيطان يسابقون الريح ..
ونظر " عبد الحافظ " فوجد الكلب واقفا على القنطرة التى سيعبر منها الرجال إلى المدافن .. إنه نفس الكلب ولكنه تضخم أكثر وغدا أشبه بالأسد فى ضراوته ..
تقدم " عبد الحافظ " نحوه بثبات وناداه :
ـ تعال .. يامبروك .. تعال إلى صاحبك ..
واتجه الكلب إليه بعد أن عرفه .. وهو يحرك ذنبه فرحا بلقاء صاحب قديم ..
ووضع " عبد الحافظ " يده على رأس الكلب ومسح على ظهره بنعومة .. وطوقه بذراعيه .. ثم أشار إليه بأن يبتعد ..
فانسحب الكلب وهو يشيع صاحبه بنظرة لم تصدر مثلها من إنسان ..
وانحنى " عبد الحافظ " على النعش ليحمله .. وشجعت هذه الحركة الرجال .. فعادوا إلى الجنازة من جديد ..
عادوا وهم يشعرون أن حركة الكلب قد فعلت شيئا فيهم لم يدركوه بعد .. وهم يتحركون فى صمت .. والمدرس الغريب بينهم وفى رأس الصفوف ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 20/4/1981 وأعيد نشرها فى مجموعة السكاكين لمحمود البدوى 1983
=================================
صوت الدم ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
نشرت القصة فى عام 1941 فى مجموعة قصص " فندق الدانوب " لمحمود البدوى
صوت الدّم
قصة محمود البدوى
كانت الطريق بين مزرعة صالح وقرية « ك » طويلة وموحشة ، وكان بعض الفلاحين العائدين من المزرعة بعد الغروب يتحاشونها ويسيرون فى طرق كثيرة بين المزارع .
على أن الذين كانوا يتروحون بدوابهم ، وهم غالبية الفلاحين ، كانوا يضطرون مجبرين إلىّ اتخاذ الطريق البعيدة لأن أرجل الدواب تفسد الزرع والنبت ، كانوا يمشون فى سكة معبدة بين الحقول ، حتى يبلغوا ترعة الجرف ، فينحدرون إلى قاعها ، ويصعدون منها مستوين على جسر القرية ، ويدورون مع الجسر العتيق البالى حيثما دار ، مجتازين بساتين النخيل والأعناب ، وأشجار السنط حتى يدخلوا القرية مع العشى ، وهم لاهثون مكدودون .. من ثقل البرسيم على ظهورهم ، ومن فرط ما يلاقونه من إعنات البهائم النافرة التى تظل طول الطريق تضرب بحوافرها الأرض وتقطع الجسر فى خطوط حلزونية وهى تخور وتصهل وتهدر فى مرح ونشاط ، لأنها شبعت من خير الأرض ، وشربت من ماء النيل ، واستدفأت بحرارة الشمس ، وقضت النهار كله فى جو بهيج طلق .
وكان الفلاحون الذين يسوقون الدواب من الحقول من فتيان القرية الأشداء الذين ألفوا سير الليل فى الليالى الظلماء ، ومع هذا فقد كان عمدة القرية يهون عليهم وحشة الطريق بإخراج خفيرين من أحسن الخفراء يتطلعان ويعسان على الجسر ، وبعض الأحيان يواصلان السير حتى المزرعة .
وكان من بين الفلاحين الذين يتخذون طريق المزرعة الطويلة الكثير من الغلمان . وكان هؤلاء أسبق أهل المزرعة إلى الرواح . كانوا يبدأون فى حش البرسيم عندما تميل الشمس نحو الأفق ، وتقرب من قرن الجبل ، وترسل أشعتها الصفراء على الحقول ، ويكومونه خارج الحقل ، ثم يضمونه فى حزم صغيرة يربطونها بسيقان الزرع اللين ، ويحلون الدواب من أوتادها ؛ ويضعون على ظهورها الخيش الثقيل ليقيها برد الشتاء ، ويوثقون أفواه البهائم النافرة بكمامات من الليف المحكم الفتل ، ويحملون ظهور الحمير والجمال بالبرسيم، ويرسلونها فى الطريق وهم وراءها يحثونها بالعصى ، ويغنون على وقع حوافرها الغناء الريفى الحزين .. كانت أصواتهم الحلوة ترن فى سكون الغسق ، وتدوى فى جوف الليل ، فيهتز لها الزرع ، ويغنى الطير ، وتنحنى لها أعناق الأبل وتسكن البهائم الهائجة ، ويحمل الهواء الرخى صداها إلى القرية، فترقص لها قلوب الأمهات طربا ، ويرحن يهيئن العشاء من العصيد والفت لأفلاذ أكبادهن القافلين من المزرعة .
وكان الفتيان وهم يدخلون القرية مع العشى لا يحسون ، مع طول الطريق، بتعب ولا نصب ، ولا يشكون من سوء الحال ، ولا يعرفون المصير . كانوا يقطعون الطريق ضاحكين صاخبين ، كانوا دائما يضحكون للزمن ويبتسمون للحياة ؛ ويقضون النهار فى الحقل يلعبون « الطرطقة » والكرة الليف ، ويأكلون الخبز الأسود بالحلبة والجبن ويشربون من لبن الضأن ، ويشعلون فى بكائر الصباح النيران فى أطراف الحقل ، ويجلسون حولها يتحدثون ويتندرون ويفيضون بأعذب الأقاصيص والسير ، ويذكرون لياليهم المقمرة الممتعة ، والزمن رخى ، ووجه الحياة بسام .
وإذا بلغ الفتيان القرية ، وقربوا من شجر السنط القائم فى شماليها انحرف الساكنون منهم فى شرق البلد عن الجسر ، وواصل الذين يقيمون فى أقصى القرية وغربيها سيرهم فى الطريق ، ثم تفرقوا طرائق على رأس الدروب ، وعصيهم تعمل بحمية ونشاط على ظهور الحيوانات الثاغية الراغبة .
وكانت القرية تظل النهار طوله فى صمت ووحشة وسكون ؛ حتى تغرب الشمس ، ويهل عليها الغلمان من الحقول ، فتعود إلى حياتها ونشاطها ومرحها ، فلا تسمع إلا صهيل الجياد وخوار الأبقار ، وهدير الإبل ونباح الكلاب ، وصوت العصى على الدواب الهائجة لتستكين فى مرابطها ، وتستنيم إلى الحظائر الضيقة بعد الحرية المطلقة فى الخلاء .. وبعد صلاة العشاء ، تحلب البهائم ، وتعود القرية إلى سكونها وصمتها .
وقل ما كان يتأخر الفتيان فى المزرعة إلى ما بعد الغروب إلا فى الليالى التى يبكرون فى صباحها إلى المدينة بائعين البرسيم ، ومع هذا فما كانوا يشعرون وهم راجعون فى الطريق بخوف ولا رعب ، ولا يرهبون شيئا من عوادى الليل ، لأن القرية مع وقوعها فى صميم الصعيد ، وبجوار قرى تكثر فيها جرائم القتل والنهب ، آمنة مطمئنة وأهلها وادعون مسالمون .
تأخر الفتى نعمان فى ليلة من الليالى فى المزرعة ، لأنه اشتغل وحده بحش ثلاثة أحمال من البرسيم للسوق ..
وكان غلاما فى السابعة عشرة من عمره ، أسمر فى حمرة حديد البصر مديد القامة ، محبوبا من رفاقه ولداته .. وهو وحيد أبويه ..
رجع نعمان وحده فى سكون الليل إلى القرية ، وتحته أتان مهزولة ؛ وأمامه دابتان قويتان .. بقرة حمراء ، وجاموسة سوداء فتية من خيار الجاموس ، مشهورة فى القرية بلبنها وسمنها ، وما تدره على أصحابها من خير عميم ، وكانت مع طيب عنصرها جافلة نافرة ، فأخذ الغلام رأسها وشد عليه .. وحمل أتانه بالبرسيم ، وساق البقرة أمامه ..
ومشى فى غلس الليل وحده شاعرا بالسكون العميق والظلام الشديد .
ولم يكن من عادة نعمان التخلف عن رفاقه فى المزرعة ، ولهذا شعر فى هذه الليلة ببعض الخوف والذعر ، وكان اليوم على خلاف الأيام غائما مقرورًا كثير السحب ضرير النجم ، خيم ظلامه قبل الأوان ، وضرب العشى بجرانه على الحقول والمزارع ..
وذاب الشفق الأحمر فى سواد فاحم سد عرض الأفق .. وهبت الرياح شديدة قوية فترنح لها الزرع ؛ وحف الشجر القائم على جوانب الطريق ، وكان أرهب ما يخشاه نعمان ، على الرغم من أنه الريفى القح ، مروره بالدواب فى فحمة الليل ووحشته على البساتين ..
فكان يتصور وراء كل نخلة من نخيل البستان لصًا قائما يترصد فكان يرتعد لهذا ويرتجف فوق الأتان ، ويقبض بيده على زمام الجاموسة ، ويحث البقرة على الإسراع فى صوت خافت جازع ..
واشتد الظلام وغرقت القرى فى لجته ، وأصبح نعمان لا يرى أبعد من مواضع حوافر الدواب ، وكان وهو يرفع نظره إلى الأفق ، ويرتد به إلى الحقول المجاورة ، يرى السنة نيران تشب ثم نحبو فى المزارع البعيدة .. وكان لومضها ولمعانها فى جوف الظلام ، منظر مرهوب ؛ ترتعد له الفرائص رعبًا ..
وكانت البقرة لا تسير على جانب واحد من الجسر ، وإنما أخذت تميل إلى اليمين مرة وإلى اليسار أخرى ، وترك نعمان حبلها على غاربها .. مد لها طرف الحبل كلما تياسرت وقربت من النيل .. وأخذ يرقب قلوع المراكب البيضاء ، وهى لبياضها فى سواد وما هنالك نور يتألق ، ثم يسمع بين الفينة والفينة مجاديف الصيادين وهى تجزر بزوارقها عن الشط ..
وسمع نباح كلاب شديد على العدوة الأخرى من النيل ، بدأ فجأة ، واستمر دقائق كاملة ، ثم خيم سكون الرمس ، وبقيت حوافر الدواب وأظلافها تضرب الأرض بقوة وعنف .
وأشرف نعمان على بستان « عمر » وهو نخيل وسنط وأعناب ولبخ يمتد من حافة الجسر ويغوص فى قلب الحقول ، وكان من أكبر بساتين القرية وأغناها بالثمر وأشدها مع ذلك وحشة . لأنه يترك معظم العام من غير حراس ؛ ولا يخفره زمن الأعناب والتمر ، إلا شيخ طاعن من الفلاحين ..
وأطلت على نعمان فروع النخيل ، وهى تميل مع هبات الرياح وكأنها فى عراك دائم مع أشباح الليل .. فوجف قلبه فرقا ، واندفع الدم إلى رأسه ، ولم يستطع رغم رباطة جأشه أن ينزع عن ذهنه المخاوف المفزعة التى ساورته ، وكان خوفه على الدواب أضعاف خوفه على نفسه بل لم يكن خوفه على حياته يستقر فى بؤرة شعوره إلا إذا تصور القتل على أبشع صوره .. الطعن بالسكاكين والتمثيل بالجسم ، وتمزيقه شر ممزق ثم رميه كأحقر أنواع الكلاب فى النيل ..
وصمت كل شىء حوله ، وبدأ الليل فى هوله مفزعا مرهوبا ، وغاصت الحقول والمزارع فى لجج الليل ، وانقطعت ألسنة النيران البعيدة ، وزادت الثورات النفسية تأججا مشوبة بأقصى ضروب المخاوف ..
وتياسرت البقرة على عادتها لما حاذت سور البستان ، ولعلها كانت تخاف رهبته كذلك ومالت إلى النور الضئيل المنبعث من النيل ..
وخيل لنعمان أنه يرى نور سيجارة تومض فى البستان ... ثم سمع صوت انسان ، وزحف أرجل حذرة ، وتقلب بطن كبطون الثعابين .. وتحركت بعده أوراق الشجر وتمايلت الفروع .. على أن هبوب الريح فى تلك الآونة بشدة طردت من رأس نعمان فكرة وجود الإنسان اطلاقا ، وبقى مع هذا خائفا يتوجس ، حتى خلصت أرجل الدواب من سور البستان .. فتنفس الصعداء ، وأصلح حمل البرسيم المعلق على جانبى الاتان ؛ واعتدل على ظهرها وتهيأ للسير السريع ..
وكان مستغرقا فى خواطر لا علاقة لها برهبة المكان مطلقا .. وانحنى الجسر فجأة انحناء شديدًا ، وتمهلت معه الدواب ، وأطل نعمان على جوف الترعة بجانبه ، وكانت قد عمقت وغابت فى أعماق الأرض حتى بدت كالمغاور السحيقة التى يضل فيها انسان العين ..
وتلفت مذعورا على صوت أقدام سريعة دوت فجأة .. وأخذته على غرة ضربة نبوت قوية من أشد السواعد وأقواها ، حطت على صدغه ، وانقلب بعدها عن ظهر الدابة يهوى من حافة الجسر إلى بطن الترعة كالحجر الساقط من قرن الجبل ، مقلبًا ظهر البطن ، حتى استقر فى قاع الترعة فاقد الحراك ..
وجفلت الجاموسة النافرة ، وانطلقت تسابق الريح إلى القرية .. وانطلقت على أثرها رصاصة طاشت عنها ، تبعتها أختها أسد وأحكم ، فأصابت فخذها الأيمن ، ونفذت منه ، وخرجت تئز وتدمدم فى الجو .. وتقطر الدم من فخذ الجاموسة على الجسر وزادتها الرصاصة هياجا وذعرا .
وقامت على صوت الرصاص الكلاب فى المزارع ، وخف على صياح الجاموسة ونواحها الخفراء والأهالى من القرية ، وخرجوا متفرقين فى المزارع كأشباح الليل الهائجة .
***
انقطع عبد الحق والد نعمان عن صلاة الفجر فى مسجد القرية واحتبس فى منزله أياما طوالا .
ولم يكن مع الذين واروا ابنه فى التراب على الرغم من أنه دفن فى ظلام الليل ، كما أنه لم يتلق تعزية واحدة من انسان ، على عادة أهل الصعيد فى أمثال هذه الأحوال ..
وكانت أشق الأشياء على نفسه أن يجر بعد الحادث إلى بيت العمدة ليدلى بمعلوماته إلى المحقق ، وكانت أجوبته على أسئلة هذا موجزة مقتضبة خالية من دلائل الاتهام ، وإن كان ذهنه قد ابتدأ يحصر الجريمة فى أشخاص معينين بالذات ..
فقد ذكر شجارا حدث بينه وبين بعض جيرانه فى الحقل كاد يجر إلى أوخم العواقب ، لولا أن مشى بينهما بعض الناس ، وذكر نزاعا بينه وبين بعض المالكين عند ضم المحصول ، استعملت فيه الهروات ، كما ذكر أن الغلام نفسه تشاحن مع رفقائه أكثر من مرة ، وكان آخر المشاحنات غالبا التهديد والوعيد .
على أن القتل لم يكن للقتل بل كان للسرقة ، قتل الغلام الأعزل لأن اللصوص استضعفوه فى ظلام الليل وارادوا سلبه مواشيه وقد فعلوا ..
أخذت هذه الخواطر المروعة تطوف فى ذهن الأب وصورة الجريمة على بشاعتها ماثلة أمام ذهنه .. ولم يستطع ، رغم أيمانه المطلق بعدل الله ويقينه الجازم برحمة ربه ، أن يتعزى ويتأسى ..
فلقد فقد بهجته فى الحياة ، ومتعته فى هذا الوجود .. حشاشة نفسه .. ولده الوحيد القائم على زراعته ، الحارس لدوابه ، الجانى لمحصوله ، ولده النافع .. ولم يستطع وهو الرجل الحديد الأعصاب ، الشديد الأيد ، القوى القلب ، أن يأخذ بزمام نفسه ويضبط جأشه ، بل كان دمه تحت تأثير الصورة البشعة التى مات عليها ابنه يغلى فى عروقه ، ويمزق أعصابه ، ويطير لبه ..
وكان الحادث مع وقوع مئات الحوادث من أمثاله فى الريف حديث أهل القرية جميعا ، وكان المغرمون منهم بتصيد الأخبار والإضافة إليها من صناعة وجدانهم يزيدون فى وصف الحادث زياده عظيمة ..
وأخذ شيوخ القرية والراسخون منهم فى الإجرام يسترقون السمع ويمدون البصر علهم يهتدون إلى الفاعل ، ولقد كان نعمان أحسن لهم من فلذات أكبادهم وأطوع لهم من أرحامهم .. وخطا بعضهم بعد جهود متواصلة خطوات موفقة وكاد أن يزيح القناع عن وجه الجريمة .. لولا أن عارضا تافهًا اعترض فى ذلك الحين فضيع هذه الجهود سدى .
***
أخذ عبد الحق على مر الأيام يستبشر بالصبر وينزل على حكم القدر فعاد إلى عمله فى المزرعة بنشاط وعزم ، وأضاف على زراعته فدانين من ضعاف الأرض أخذ على نفسه اصلاحهما وتسميدهما ، وكان موسم الزراعة قد حل فى جزيرة القرية وهى على العدوة الأخرى من النيل ، فبكر مع المبكرين فى الذهاب إليها .. بيد أنه كان يتخير فى غدوه ورواحه أوقاتا تختلف عن أوقات الفلاحين .
وكانت أشد الأشياء وقعا على نفسه وأشدها ايلاما لقلبه ، منظر زوجه فى البيت .. فقد انقلب كيان الأم بعد أن مات عنها وحيدها ..
فذبل جسمها وجف ماء شبابها واصفر لونها ، وتخدد وجهها وبرزت محاجر عينيها .. وكانت المسكينة تنزوى سحابة النهار وطول الليل فى ركن مظلم من البيت ، لا تحادث أحدا ، ولا تخاطب زوجها .. وكان هذا يرى فى بريق عينيها كلما واجهته تعبيرا ناطقًا عما فى نفسها ، وتعنيفًا مؤلما على موقفه كرجل .. على أن الرجل لم يكن مقصرًا قط ..
فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على هذا الحادث المروع فإنه كان لا ينفك يبحث ويتسقط الأخبار ، ويجمع ما يطير من أفواه الناس ، حتى أعياه الأمر وأضناه ، ففتر عن البحث وترك الأمر للأيام وهى وحدها الكفيلة بإظهار الجانى ..
فليست حوادث القتل من الحوادث التى يمكن أن تضيع معالمها ويختفى أمرها عن الناس جملة مهما كان القاتل أو السارق من الحذروالحيطة وبعد النظر ، وبراعة الذهن والتفنن فى ضروب الاجرام .. وقد يحدث عرضا حادث تافه ، أو يجرى حديث بسيط أو يقع أمر حقير .. فيزاح ستر الجريمة ويظهر أمرها للناس ..
والقرويون بطبيعتهم فيهم الصبر وعندهم الأناة .. فما يتسرعون ولا يركبون متن الشطط ، ولا يسددون السهم إلى غير قلبه .. ولا يصوبون إلا إذا أبصروا هدفا ، وتراهم فى كثير من الأحايين يدعون القاتل يمرح ويلهو حتى ينسى نفسه ؛ وهم فى الوقت عينه يضيقون عليه الدائرة وينصبون حوله الشباك حتى يقع فى الفخ .
***
عاد عبد الحق فى ليلة من الليالى من جزيرة القرية متأخرًا على خلاف عادته .. فلم يجد معدية القرية فى مرساها وانتظرها حتى عيل صبره .. فأخذ يتمشى على شاطىء النيل عله يجد زورقا من زوارق الصيادين ينقله إلى القرية .. وكانت الليلة ظلماء ساكنة الريح موحشة الصمت فتثاقل فى سيره وأرهف حسه .. حتى سمع صوت مجاديف خفيفة فمد قامته وسدد بصره فى حجب الظلام فبصر بسواد يتهادى نحو الشط فلبث قليلا ثم هتف بمن فى الزورق ، فألفاه يجزر عن الشط بعد أن كان يقترب منه ، وهى حركة طبيعية مألوفة من الصيادين .. الصيادين من سكان المدينة على الأخص ، فهم يرهبون الريفيين ويتقون بأسهم ويتحاشون وجودهم ، ويتصورون أنهم بالإجماع لصوص فاتكون ما يخرجون فى رهبة الليل إلا لتصيد الناس .. وما أسهل من أن يغير فاتك قروى على زورق من زوارق هؤلاء الضعفاء المساكين، فيسلبه سمكه وماله ، ثم يلقى بمن فيه فى النيل .. !
وابتسم عبد الحق لما رأى الزورق ينقلب على عقبيه ، ويرتد عن الشط .. ثم سار فى طريقه بعد أن صب اللعنات على من فيه ..
واتجه نحو السد حتى غابت عنه القرية ، وانقطع عنه نباح كلابها .. وكان قد قرر الرواح حتى ولو بلغ السد .. ودار كل هذه الأميال ، لأن تخلفه عن بيته سيبعث الوساوس والشكوك فى نفس زوجته الثكلى ، وربما طير صوابها ..
وسمع على بعد صوتا يشبه صوت أقدام تتخبط فى الماء .. فدلف نحو الصوت حتى اقترب منه.. فوجد صيادا يجر زورقا صغيرا ويغالب به التيار الشديد فسر لمرآه ورأى أن يتسلل خفية ، حابسًا صوت أقدامه ، حتى يقترب منه .. فأخذ يتلصص فى مشيته حتى كان بجانب الرجل ، وبادره بالتحية فرد الصياد ، وفى صوته الرهبة ، وعلى ملامح وجهه الجزع ..
فأخذ عبد الحق يحادثه حتى سكن طائره ، واطمأن قلبه ، ثم رجاه أن يعبر به النيل فقبل ، وأخذ يطوى الحبل وفى حركة يديه دلائل التذمر .
وانطلق بهما الزورق وكان الصياد على عكس الصيادين ـ وهم يلزمون دائما جانب الصمت حتى لا تخيب شباكهم ـ ثرثارا كثير الخلط فى الكلام ..
فأخذ يقص على عبد الحق طرفا من سيره ونوادره ، وحوادثه مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول .. ويطلبون الرواح بعد نصف الليل ، وبطونهم خاوية .. !
واستمر فى ثرثرته الفارغة حتى بلغا منتصف النيل ، وهنا انطلقت رصاصة فى الجو ، وهى تدمدم .. وأزيزها عند آذانهم .
فقال الصياد وهو يشد على مجاديفه :
ـ دائما الرصاص فى القرى .. دائما الرصاص فى الليل .. لو كنت واقفا لقتلت ..
فقال عبد الحق وقد نبشت الرصاصة دفائن شجنه :
ـ عمرك طويل ... !
فقال الصياد ضاحكا ، وقد سره أن وجد ما يسل لسان صاحبه بعد طول احتباس وطول صمت :
ـ أجل .. فعمرى طويل حقا .. لقد مرت رصاصة ذات مرة هنا عند شحمة أذنى .. فأخذت أذنى تطن ساعة .. وكان ابن اللعينة « علام » جالسا فى المؤخرة يضحك .. أجل واللّه كان يضحك والرصاص يصافخ رأسى .. وهو رابض كالليث لا يغير جلسته ولا تغيب الابتسامة عن وجهه .. وكانت عيناه تلمعان كعينى صقر يريد أن ينقض على فريسته ..
وصمت الصياد قليلا ليصلح مجاديفه ثم استطرد :
ـ وجدنى الملعون على الشاطئ .. فقال بلهجة الآمر وفوهة بندقيته عند أنفى .. هيا اعبر بى النيل مسرعا .. هيا .. وكان الشرر يتطاير من عينيه .. ثم سمعت على إثر ذلك الرصاص يدمدم .. فأدركت أنه مطارد فحركت المجاديف وأنا أنتفض من الذعر .. وكان يقول بصوت أجش .. أسرع ولا تتحدث .. وإلا فأنت تعرف مصيرك .. وبالطبع أنا أعرف مصيرى هناك عند سفح الجبل ! .. ولهذا لم أتحدث بما جرى لأحد ولن أتحدث ... !
وانطلق الرجل فى ثرثرته وصاحبه لاه عنه بما يدور فى رأسه من خواطر حتى اقتربا من الشاطىء .. وهنا لمح عبد الحق سوادا يتحرك على بعد .. ثم ومض سيجارة .. فلما كان الزورق على مسافة أمتار من الشاطئ ظهر رجل ضخم الهامة ، بادى الطول ، قد عصب رأسه وأسفل ذقنه بعجار أسمر ، وغطى بندقيته وألواح كتفيه بملحفة لا لون لها .. وكان يتمشى وهو يدخن ، فلما اقترب منه الزورق ، قال موجها كلامه إلى الصائد ، وكان صوته خشنا مرهوبا ؛ كأنه يتردد قبل خروجه من حنجرته فى أعماق بئر ما لها من قرار :
ـ أحمد ..
فأجاب الصائد :
ـ نعم يا علام .. مساء الخير .. من أين .. !
ـ من القرية طبعا .. !
ـ وما الذى تريده فى هذه الساعة من الليل يا أخى .. ؟
ـ أريد الرواح .. هل تتصور أنى سأبات هنا ..
ـ لا طبعا ..
ـ من معك .. ؟
ـ رجل طيب من القرية عم ..
فأتمم عبد الحق كلام الصائد :
ـ عبد الحق ..
فصمت الرجل ولم يقل بعد ذلك شيئا ، ووقف يدخن .. وكان الزورق قد بلغ الشاطئ ، فنزل منه عبد الحق ، وواجه الرجل .. ورأى فى بريق عينيه وملامح وجهه الساكنة الصارمة .. ما ألهب خواطره ولما اقترب عبد الحق منه ضاقت عينا الرجل قليلا ، وتقلصت شفته السفلى بعض الشىء ، وانفرجت أسنانه ، فعل من يهم بالكلام ، ولكنه تراجع وتماسك ، لسانح فى ذهنه ، فابتسم ابتسامة نكراء ..
ومر عليه عبد الحق دون أن يحييه .. ولما نزل الرجل فى الزورق ، وقف يرقبه على بعد حتى غاب عن بصره ، واحتواه النيل .
***
كان الشتاء قد حل والقصب قد نضج واستوى عوده وسمقت فروعه .. وكان عبد الحق فى طريقه إلى القرية ، وقد ترك المعدية ، واتخذ لنفسه طريقا وسطا بين مزارع القصب الكثيرة التى لا يأخذها الطرف كانت آلاف مؤلفة من الأفدنة لثراة أهل البلد وعيونها وهى خير محصول وأجنى ثمر ..
وكان الرجل يمضى فى الطريق وحيدا وهو يشخص ببصره من حين إلى حين إلى النيران البعيدة المشتعلة فى أقصى المزارع ، وكان الليل فى هزيعة الثانى والرياح عاصفة ، والبرد شديد قارس ، وحملت الريح إلى عبد الحق صوت كلاب أخذت تنبح بشدة ، ثم خفت صوتها تدريجيًا ، ثم حمى الصوت واشتد مرة أخرى ، وانقطع بعدها فجأة ..
فوقف فى مكانه ورمى بصره فيما حواليه ، وقد ساورته خواطر الريفى الذى يعرف لهذا النباح المفاجئ فى جوف الليل سببا .. ولم تكذبه فراسته .. فقد أهلت عليه من أقصى الطريق ماشية تساق سراعا ، ما لبث أن تجنب بها سائقوها الطريق المألوف ، وتياسروا بها إلى بطن واد قريب يتجه إلى النيل ..
فوقف عبد الحق هنيهة ، وبصره مستقر على الدواب ثم انخرط فى إثرها بعد أن خاف أن يغيب عن نظره .. وسار فى بطن الوادى ثم كمن فى بعض المغاور التى يحفرها الفلاحون لشواديفهم ، ورقب بعينى نسر .. وبعد لحظات مرت الماشية أمامه.. وكانت كلها أبقار من بينها ثور ضخم هائج ، قد من أنفه ، وأخذ من قرنيه ، وكان على الرغم من الضرب الشديد النازل على ظهره وجنبيه ، لا يغير خطوته ، ولا يحرك جلده ، وانما أخذ يدفع رأسه إلى فوق ، ويرمى ضاربه بنظرات ينخلع لها قلب الشجاع ، وكانت الأبقار كلما تحولت عن طريق الثور وحادت عنه ، ترد على أعقابها لتكون وراءه دائما ..
وتصور عبد الحق أنه يرى بقرته فى هذا القطيع ، رأى بقرة تشابه بقرته ، ولكنها لم تكن غراء مثلها .. نظر إلى هذه البقرة وأمعن فيها البصر وقلبه يزداد وجيبه ، والذكريات المرة تنهش رأسه ..
ثم انقلب بصره عنها واستقر على شىء آخر.. على الرجال الثلاثة الذين كانوا يسرقون الدواب ، وعلى واحد منهم على التعيين ، وكان يمشى فى المؤخرة بعد الماشية بخطوات ويتطلع من حين إلى آخر إلى الخلف .. تذكر أنه رأى هذا الرجل بقامته الفارعة ولفتاته ونظراته الحاده .. كان هو علام بعينه الذى حدثه عنه الصياد ، والذى التقى به عرضًا فى تلك الليلة التى تأخر فيها فى الجزيرة كان علام فى هذه الليلة صارم الملامح .. ولكنه كان خفيف اللفتة قلق النظر ، يتأهب للحوادث ..
ولما قربت الماشية من النيل ، رأى عبد الحق مركبا راسية طاوية قلوعها ، ما لبث أن خرج منها نوتيان عرف أحدهما ، كان هو صاحبه الصياد بعينه..! فنظر عبد الحق إلى هذا الرجل ومرت على شفتيه ابتسامة .. ونزلت الماشية فى المركب دون أن يتبادل الرجال الخمسة كلمة واحدة .. وحدث أن سقطت رجل بقرة من الأبقار بين دسر المركب فتركت كما هى ..
وسارت المركب صوب الجزيرة ، وعاد عبد الحق إلى القرية ..
***
وصل إلى سمع عبد الحق ، بعد ذلك الحادث بأيام ، همس يدور على أفواه الناس .. ذلك أن هذه الحيوانات سرقت فى فحمة الليل ، ثم حبست شهورا فى بعض البساتين ، لا تخرج لمرعى ولا تساق لمسقى .. حتى هدأت عنها الألسنة وغفلت العيون .. وهنا سربت على هذه الصورة فى سواد الليل ورحلت مع قطعان كبيرة إلى جهة نائية .. وعلم أيضا أن بقرة واتانا حبسا فى هذا البستان بعينه .. ثم أخذا فى فجر يوم ولا يعلم أحد إلى أين ذهب بهما.. وإن كان يحتمل ـ لأن السرقة صحبتها جريمة قتل ـ إن البقرة ذبحت .. أما الأتان فألقيت فى النيل ، وكان علام هو الذى سرب الدابتين ..
وعلى ضوء هذا واصل عبد الحق جهوده فعلم بعد بحث مضن استغرق أياما أن اللصوص كانوا فى تلك الليلة الشنعاء سبعة .. وكانوا يقصدون مزرعة لبعض الثراة .. ثم فلتت من أيديهم الفرصة ، بعد أن علموا فى اللحظة الأخيرة أن الخفراء ساهرون وعلى أتم استعداد .. والتقوا وهم مرتدون خائبون بنعمان عن عرض فوجدها علام فرصة ذهبية سانحة .. وحرض رفاقه.. فرفض منهم عربيان أصيلان أن يسرقا غلاما أعزل ، على صورة دنيئة لا يرتكبها إلا الجبناء .. ووافق على نهبه الباقون .. وكمن له علام وأخذه على غرة ..
وعرف عبد الحق بعد ذلك الشىء الكثير عن علام هذا .. وهو أنه مجرم يسكن عزبة .. «ج» .. ويعيش على السرقة والنهب .. فيترصد التجار العائدين من الأسواق ويسلبهم ما لهم ومتاعهم ، ويفر بغنيمته فى الحقول فرار الثعلب ..
وهو مع لصوصيته ، لا يغفل نداء قلبه ، وحاجة جسمه ، فهو يتردد على أرمل من جميلات القرية مات عنها زوجها منذ سنين ، وخلفها وحيده الأهل .. وهى مع جمالها سيئة الخلق عصبية المزاج حادة الطبع .. وكانت فى صباها مطمع أنظار الشبان من الأعيان ثم كبرت وترهل جسمها نوعا ، على ممر الليالى ، فتركها هؤلاء .. وانحط مستواها بعدهم وأصبح لها ولع غريب بالفتيان الأشداء الذين دون العشرين ، وكانت تغريهم وتستحوذ عليهم بكل الوسائل ..
وكان يساعدها على هذه الحياة الماجنة بيتها القائم فى طرف القرية منعزلا عن سائر البيوت ، وحوله بساتين كبيرة من النخيل والأعناب ..
وكانت مع حياتها الماجنة هذه تتحدث دائما عن سمعتها وشرفها، وتكثر من الترحم على زوجها .. المرحوم !
وكان علام يتردد على هذه المرأة فى بعض الليالى المظلمة ، ويرجع إلى عزبته عندما يرسل الفجر أول بصيص من النور ..
***
كانت المعدية الأخيرة ، والنقلة الأخيرة ، من غرب النيل إلى شرقه وكانت غاصة بالفلاحين العائدين من المزارع ، والقافلين من السوق ، والراجعين من المدينة .. كانوا يتحدثون عما شاهدوه فى المدينة وما ابتاعوه من السوق ، وقد نشروا على عواتقهم شيلانهم الزاهية ، وملاحفهم الحمراء الجديدة .. كانوا مبتهجين فرحين ، تطوف فى رؤوسهم ذكريات الصور الجميلة التى مرت عليهم ، وأخذت بألبابهم ..
وكانوا يديرون رؤوسهم من حين إلى حين إلى مؤخرة المركب ، حيث يجلس نفر من أبناء الأثرياء الراجعين من المدرسة ، والعائشين فى المدينة ، كانوا عندهم صورة حلوة للعيش الرغد ، والتمرغ فى النعيم ، والتمتع بمباهج الحياة وملذاتها دون أن يضربوا فأسًا أو يبذلوا جهدا.. كل جهودهم تنحصر فى تقليب صفحات كتاب .. ! وهل فى هذا جهد .. هل جهود سكان المدينة جميعا من هذا الطراز .. إذن ما أحلى العيش فى المدينة ..
كانوا ينظرون إلى هؤلاء الطلاب نظرة إكبار وإجلال ، وهم خير مثال يحتذى ؛ وخير آمر يطاع ، كانوا ينصتون إلى كل كلمة تخرج من أفواههم ، وكل حديث يدور بينهم لعلهم يهتدون إلى نور العلم ، ويخرجون من الظلمات ..
وكان النسوة الجالسات فى ركن منعزل من السفينة يتطلعن إلى هؤلاء الطلاب ، ويملن على بعضهن هامسات باسمات ، وخدودهن الوردية تفيض بماء الحياء ، وعيونهن الناعسة تلمع ببريق أخاذ ..
وكان عبد الحق وعلام من ركاب هذه السفينة أيضًا بيد أنهما لم يكونا متجاورين .. كان كل منهما يحادث رفاقه .
أما صاحب السفينة وقائدها فقد أسند جنبه الأيمن إلى مقبض الدفة ، وطفق يتطلع إلى السماء ويرقب القلع .. ثم عالج أخيرا حبلا قريبا منه ، وشد به على ناصية القلع .. عله يشيل .. ولكن هيهات .. ! فقد كان الهواء معاكسًا والتيار القوى يرد السفينة إلى الخلف أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام .. حتى وقفت المركب فى وسط النيل ، كأنها لا تتحرك ، أو كأنها تتراجع ..
وأخيرا صاح النوتى وهو يحول الدفة :
ـ حسن .. عباس .. هيا يا أولاد إلى المجاديف ...
فنهض إلى المجاديف أربعة من الشبان الأشداء ، ظهر أثر تجديفهم بعد قليل من الزمن ، فقد تقدمت المركب مغالبة التيار ، على أن النوتى لم يقنع بجهود الشبان الأقوياء فأخذ يهيب بهم ويحثهم بقوله :
ـ ما هذا .. ! ما هذا التجديف ..! رحم اللّه أيام الشباب .. كنا نقود أنا وصالح مركبا تحمل خمسمائة أردب ونحمل الأردب من القمح .. كما يحمل حسن حزمة من القش ..
فقال أحد الطلاب يمازح النوتى :
ـ ومع هذا فقد ضربك عبد المقصود وطير أسنانك ..
ـ من قال لك هذا يا بنى .. ؟ .. هل كنت حاضرا .. ؟
صحيح أنه ضربنى ولكنه لم يطير أسنانى .. وقد شكوت هذا الشاب الطائش إلى ربى فانتقم منه شر انتقام ..
ـ عندما يضربنى رجل على فكى الأيمن ، لا أدير له الأيسر ، وإنما أضربه على أم رأسه فأطير فكيه معًا ..
فسأله أحد الفلاحين وهو يضحك :
ـ وإذا ضربتك امرأة .. ؟
ـ أعرف كيف أرضيها .. !
ـ ها .. ها ..
واتجه الفلاحون جميعًا إلى هذا الطالب .. وقد كان كلامه طيب الوقع على نفوسهم .. وإن كانوا لا يتوقعون منه مثل هذا الكلام .
واعترض عليه أحد رفقائه :
ـ كيف تطير فك مخلوق بشرى مثلك .. هذه وحشية وفظاعة .. واجرام .. دع أمره إلى اللّه وهو خير مقتص ..
ـ هذا صحيح .. أنا مسلم بأنى لو ضربت انسانا مثلى على أم رأسه أعد فى نظر الناس ، ونظر الاجتماع وحشًا وفظًا غليظ القلب .. ولكن المرء فى مواقف كثيرة لا يملك أمر أعصابه ، وزمام نفسه .. يعود إلى فطرته ، إلى طبعه البكر قبل أن يهذب ويشذب ، فلا يرده حلم ولا يردعه زاجر .. عندما يضربنى انسان فيطير لى سنة لا أدعه حتى أحطم أنفه .. أفعل هذا دون وعى منى ، ثم بعد ذلك أفكر هل أحسنت صنعا بعمل هذا أم أسأت .. هل فى عملى هذا وحشية وجرم .. أفعل هذا ثم يأتى بعد ذلك دور التفكير ، ودور الندم .. من منكم يستطيع أن يغل يده إلى عنقه عندما يعتدى امرؤ على عزيز لديه .. ابنه .. فلذة كبده ..
ـ هذه أعمال اجرامية تجر إلى الفوضى ..
ـ هذا حق .. ولكنها قد تحدث عكس ما تتصور تماما ، فمتى عرفت أنك متى صفعتنى سأصفعك ، تراجعت وجبنت حتى ولو كنت أشجع الشجعان .. من منكم يجرؤ على صفعى الآن وأنا ألقيه فى النيل .. ! ..
فقال شيخ مهدم :
ـ أنا ..
ونهض .. فضجت المركب بالضحك ..
وكان عبد الحق ينصت إلى هذا الحوار الدائر بين الشبان باهتمام شديد .. والخواطر السابحة فى قرارة ذهنه قد طفرت وعادت تهيمن على شعوره ، ومازال يغالب انفعالات نفسه ، حتى غفل عما يدور حوله واستغرق فى أمر نفسه ، وهو شارد ساهم ..
ولما فتح باب منزله فى غلس الليل كان قد اعتزم أمرا ..
بارح عبد الحق منزله فى ليلة من الليالى وسار صوب المزارع ، وكان يمضى سريعًا وفى جسمه قوة لم يعهدها من قبل ، وكان مستريح الذهن هادىء البال ، قد أزاح عن صدره كل ما كان يثقله ، وصرف عن ذهنه كل ما كان يقلقه ويحيره فى الماضى ، ووجه نفسه إلى أمر واحد تجمعت فيه قوته وحيويته .. ولهذا شعر بدم الشباب يسرى فى الياف جسمه ، وبقوة عظيمة تحمله على المضى فى طريقه ..
وكان يرتدى رداء أسود فوقه عباءة من الصوف الثقيل ، وتحت هذه بندقية من النوع الجيد .. وكانت الليلة حالكة الظلام ، شديدة الريح ، والشتاء فى صميمه ؛ وبرده الحاد يقطع الأنفاس ويحبس الناس فى بيوتهم من الغروب فلا يتخلف من الفلاحين فى الحقول إلا أولئك الذين اتخذوا للشتاء عدته ، فبنوا لأنفسهم عرائش من عيدان الذرة ، وأشعلوا حولهم النيران وجلسوا يصطلون ..
وكان عبد الحق لا يقصد حقلا من الحقول البعيدة التى يتخلف فيها الفلاحون ، وإنما كان يقصد حقلا قريبا من القصب يطوق الجانب الشرقى من القرية ، كان يمر فيه علام كلما عاد من منزل المرأة التى يتردد عليها .. اتقاء للعيون ، ودفعا للشبهات ..
ولما بلغ هذا الحقل مضى قدما فى طريق ضيق بجانبه ، ثم ارتد إلى حيث اختار ودخل بين القصب ، وجلس متمددا يدخن ..
ومضت عليه ساعة .. وعادت بعدها إليه الهواجس التى كانت تبلبل خاطره من قبل ، رجعت إليه خواطر المتردد ..
رجعت إليه الصور التى تمر على المجرم قبل الساعة الفاصلة .. قبل ارتكاب جرمه بلحظات .. والتى يخرج منها وقد قطع بأمر .. وقف وقفة الرجل الحائر عند مفترق الطرق المتشعبة والذى لا يدرى من أين يمضى ويسير ..
عاد إلى إنسانيته ، وإلى طبيعة الخير فيه ، تذكر وتصور لأول مرة فى حياته أنه سيقتل إنسانا ، بشريا مثله من لحمه ودمه .. عربيا من جنسه .. شابا ناضر الأهاب فتى العود أمامه الحياة الطويلة ، وليس شيخًا مثله قد بلغ من العمر أرذله ؛ ومن الحياة منتهاها .. بيد أنه شاب متمرد .. شاب تمرد على الحياة ، وتمرد على الاجتماع ، وخرج على القانون ، وغدا مجرما .. ولكن من الذى دفعه إلى الاجرام ، من الذى رمى به فى هذه الطريق .. ؟ من الذى سلبه نفسه وقلبه وجرده من انسانيته ورجع به إلى وحشيته الأولى وجاهليته الأولى ، من الذى ألقى به إلى التهلكة فأصبح منبوذًا مطرودا ؟ من الذى فعل به كل هذا ؟ ظلام الجهل بلاء الفقر قسوة المجتمع ، هل فى هؤلاء الغلمان المهذبين من أبناء الأعيان الذى رآهم فى المركب منذ أيام متمرد .. ؟ هل فيهم جاهل تقرأ على وجهه دلائل الإجرام كما تقرأ على وجوه هؤلاء الريفيين الذين يتقاتلون على أتفه الأشياء ..
لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ..؟ ليأخذ بثأره .. ولماذا يأخذ بثأره ..؟ لماذا يفعل هذا ..؟ لماذا لا يدع الأمر لربه ..؟ وهو خير مقتص .. لماذا يثور هو الآن ويضطرب اضطرابا لم يعهده فى جسمه .. ؟ لماذا يتراجع بعد أن أجمع أمرًا .. لماذا يفكر هكذا .. ؟
لماذا قتل هذا المجرم ابنه .. ابنه الوحيد الحبيب نعمان .. مبتغاه فى هذه الحياة الدنيا ، ضربه ورماه فى جوف الترعة فى هذه الصورة المنكرة .. ؟
وأصبح عبد الحق لا يرى الآن إلا ابنه .. ولم يكن يراه وهو يعمل فى الحقل ، أو وهو راجع من المزرعة ، وإنما رآه وهو ملقى فى بطن الترعة مضروبا كأحقر الكلاب ..
وهاج على هذه الصورة هياج الليث الكاسر .. ومسح العرق ، ورمى طرفه إلى أقصى ما يبصر ..
وسمع حسا فأنصت وسدد بصره ، وانبطح على وجهه ، وألصق البندقية بكتفه الأيمن .. وصوب ماسورتها من بين عيدان القصب ، وكان قد تخير مكانا مناسبا فى بطن الحقل يشرف منه على طريق صاعد قرر أن يأخذ فيه غريمه .. وجذب أكرة البندقية وسمع حركة الرصاصة تندفع إلى الماسورة متهيأة لضغط الزناد .. وكتم أنفاسه وأنصت .. ومرت ساعة رهيبة وعاد كل شىء ساكنا موحشًا ..
وتحركت عيدان القصب ، ورجعت الرياح تعصف ، واشتد البرد واستولى على عبد الحق القلق ، وخاف أن تفلت منه الفرصة .. وسمع فجأة حس إنسان ووضح الصوت وكان يعرف صاحبه ، فتراجع إلى الوراء خطوات وعينه لا تتحول عن الطريق ، وقرب صاحب الصوت .. وكان سقاء القرية يمشى وراء حماره الذى حمله بالقرب حتى انحنى ظهره ، وهو يضربه ضربا موجعا مع أنه ضامر هزيل أعرج .. ولما قرب السقاء من مكمن عبد الحق تلفت .. كأنه يسمع أنفاسا .. ثم مضى وراء حماره وقد حلى له أن يغنى ..
وعاد عبد الحق إلى مكانه الأول ، وقد شعر بعد مرور هذا السقاء بالارتياح الشديد ، وقد انتفت عن رأسه الهواجس التى ساورته أول الأمر ، وهو متردد بين الاقدام والاحجام ؛ وعاوده الحنين إلى الانتقام وأصبح فى الساعة التى تمر على المذهول ، وقد وقفت سلسلة أفكاره جملة ، وغفل عن كل شىء حوله إلا ما انتوى ..
وكانت الرياح كلما توغل الليل تزداد شدة وعصفا ؛ فثارت ثورة النيل ، وهاجت مزارع القصب وتمايلت بساتين النخيل ، وتطايرت فروع الزرع الجافة واغبر الجو واكفهر ، فجمع عبد الحق حواسه كلها فى باصرته ورقب الطريق ..
ولاح على بعد شبح انسان ، ثم رجل فى ثوب داكن وقد غطى رأسه وعنقه .. وكان ثابت الخطوة يمشى على مهل ، ولا يعير باله لما يجرى حوله ، ولما قرب من مكمن عبد الحق تمهل فى سيره جدًا ، وتلفت كالمذعور .. وهنا صوب عبد الحق ونشن وضغط على الزناد .. وبصر به يهوى مع ومض البارود .
***
أخذ عبد الحق سمته إلى المقبرة لأول مرة بعد حادث ابنه ولقيه فى الطريق وهو راجع منها قبل الفجر مجذوب من هؤلاء المجاذيب الذين يترددون على الأذكار فشخص فى وجهه ثم مد له يده وعلى شفتيه إبتسامة بلهاء وقال له :
إنا لله
فانتفض عبد الحق ومد إليه يدًا ترتعش والتقت أعين الرجلين ، وكانت عينا المجذوب تلمعان فى بلاهة وخبث .. أما عينا عبد الحق فقد أخذتا تنطفئان بالتدريج ..
===============================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " عام 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
صوت الدّم
قصة محمود البدوى
كانت الطريق بين مزرعة صالح وقرية « ك » طويلة وموحشة ، وكان بعض الفلاحين العائدين من المزرعة بعد الغروب يتحاشونها ويسيرون فى طرق كثيرة بين المزارع .
على أن الذين كانوا يتروحون بدوابهم ، وهم غالبية الفلاحين ، كانوا يضطرون مجبرين إلىّ اتخاذ الطريق البعيدة لأن أرجل الدواب تفسد الزرع والنبت ، كانوا يمشون فى سكة معبدة بين الحقول ، حتى يبلغوا ترعة الجرف ، فينحدرون إلى قاعها ، ويصعدون منها مستوين على جسر القرية ، ويدورون مع الجسر العتيق البالى حيثما دار ، مجتازين بساتين النخيل والأعناب ، وأشجار السنط حتى يدخلوا القرية مع العشى ، وهم لاهثون مكدودون .. من ثقل البرسيم على ظهورهم ، ومن فرط ما يلاقونه من إعنات البهائم النافرة التى تظل طول الطريق تضرب بحوافرها الأرض وتقطع الجسر فى خطوط حلزونية وهى تخور وتصهل وتهدر فى مرح ونشاط ، لأنها شبعت من خير الأرض ، وشربت من ماء النيل ، واستدفأت بحرارة الشمس ، وقضت النهار كله فى جو بهيج طلق .
وكان الفلاحون الذين يسوقون الدواب من الحقول من فتيان القرية الأشداء الذين ألفوا سير الليل فى الليالى الظلماء ، ومع هذا فقد كان عمدة القرية يهون عليهم وحشة الطريق بإخراج خفيرين من أحسن الخفراء يتطلعان ويعسان على الجسر ، وبعض الأحيان يواصلان السير حتى المزرعة .
وكان من بين الفلاحين الذين يتخذون طريق المزرعة الطويلة الكثير من الغلمان . وكان هؤلاء أسبق أهل المزرعة إلى الرواح . كانوا يبدأون فى حش البرسيم عندما تميل الشمس نحو الأفق ، وتقرب من قرن الجبل ، وترسل أشعتها الصفراء على الحقول ، ويكومونه خارج الحقل ، ثم يضمونه فى حزم صغيرة يربطونها بسيقان الزرع اللين ، ويحلون الدواب من أوتادها ؛ ويضعون على ظهورها الخيش الثقيل ليقيها برد الشتاء ، ويوثقون أفواه البهائم النافرة بكمامات من الليف المحكم الفتل ، ويحملون ظهور الحمير والجمال بالبرسيم، ويرسلونها فى الطريق وهم وراءها يحثونها بالعصى ، ويغنون على وقع حوافرها الغناء الريفى الحزين .. كانت أصواتهم الحلوة ترن فى سكون الغسق ، وتدوى فى جوف الليل ، فيهتز لها الزرع ، ويغنى الطير ، وتنحنى لها أعناق الأبل وتسكن البهائم الهائجة ، ويحمل الهواء الرخى صداها إلى القرية، فترقص لها قلوب الأمهات طربا ، ويرحن يهيئن العشاء من العصيد والفت لأفلاذ أكبادهن القافلين من المزرعة .
وكان الفتيان وهم يدخلون القرية مع العشى لا يحسون ، مع طول الطريق، بتعب ولا نصب ، ولا يشكون من سوء الحال ، ولا يعرفون المصير . كانوا يقطعون الطريق ضاحكين صاخبين ، كانوا دائما يضحكون للزمن ويبتسمون للحياة ؛ ويقضون النهار فى الحقل يلعبون « الطرطقة » والكرة الليف ، ويأكلون الخبز الأسود بالحلبة والجبن ويشربون من لبن الضأن ، ويشعلون فى بكائر الصباح النيران فى أطراف الحقل ، ويجلسون حولها يتحدثون ويتندرون ويفيضون بأعذب الأقاصيص والسير ، ويذكرون لياليهم المقمرة الممتعة ، والزمن رخى ، ووجه الحياة بسام .
وإذا بلغ الفتيان القرية ، وقربوا من شجر السنط القائم فى شماليها انحرف الساكنون منهم فى شرق البلد عن الجسر ، وواصل الذين يقيمون فى أقصى القرية وغربيها سيرهم فى الطريق ، ثم تفرقوا طرائق على رأس الدروب ، وعصيهم تعمل بحمية ونشاط على ظهور الحيوانات الثاغية الراغبة .
وكانت القرية تظل النهار طوله فى صمت ووحشة وسكون ؛ حتى تغرب الشمس ، ويهل عليها الغلمان من الحقول ، فتعود إلى حياتها ونشاطها ومرحها ، فلا تسمع إلا صهيل الجياد وخوار الأبقار ، وهدير الإبل ونباح الكلاب ، وصوت العصى على الدواب الهائجة لتستكين فى مرابطها ، وتستنيم إلى الحظائر الضيقة بعد الحرية المطلقة فى الخلاء .. وبعد صلاة العشاء ، تحلب البهائم ، وتعود القرية إلى سكونها وصمتها .
وقل ما كان يتأخر الفتيان فى المزرعة إلى ما بعد الغروب إلا فى الليالى التى يبكرون فى صباحها إلى المدينة بائعين البرسيم ، ومع هذا فما كانوا يشعرون وهم راجعون فى الطريق بخوف ولا رعب ، ولا يرهبون شيئا من عوادى الليل ، لأن القرية مع وقوعها فى صميم الصعيد ، وبجوار قرى تكثر فيها جرائم القتل والنهب ، آمنة مطمئنة وأهلها وادعون مسالمون .
تأخر الفتى نعمان فى ليلة من الليالى فى المزرعة ، لأنه اشتغل وحده بحش ثلاثة أحمال من البرسيم للسوق ..
وكان غلاما فى السابعة عشرة من عمره ، أسمر فى حمرة حديد البصر مديد القامة ، محبوبا من رفاقه ولداته .. وهو وحيد أبويه ..
رجع نعمان وحده فى سكون الليل إلى القرية ، وتحته أتان مهزولة ؛ وأمامه دابتان قويتان .. بقرة حمراء ، وجاموسة سوداء فتية من خيار الجاموس ، مشهورة فى القرية بلبنها وسمنها ، وما تدره على أصحابها من خير عميم ، وكانت مع طيب عنصرها جافلة نافرة ، فأخذ الغلام رأسها وشد عليه .. وحمل أتانه بالبرسيم ، وساق البقرة أمامه ..
ومشى فى غلس الليل وحده شاعرا بالسكون العميق والظلام الشديد .
ولم يكن من عادة نعمان التخلف عن رفاقه فى المزرعة ، ولهذا شعر فى هذه الليلة ببعض الخوف والذعر ، وكان اليوم على خلاف الأيام غائما مقرورًا كثير السحب ضرير النجم ، خيم ظلامه قبل الأوان ، وضرب العشى بجرانه على الحقول والمزارع ..
وذاب الشفق الأحمر فى سواد فاحم سد عرض الأفق .. وهبت الرياح شديدة قوية فترنح لها الزرع ؛ وحف الشجر القائم على جوانب الطريق ، وكان أرهب ما يخشاه نعمان ، على الرغم من أنه الريفى القح ، مروره بالدواب فى فحمة الليل ووحشته على البساتين ..
فكان يتصور وراء كل نخلة من نخيل البستان لصًا قائما يترصد فكان يرتعد لهذا ويرتجف فوق الأتان ، ويقبض بيده على زمام الجاموسة ، ويحث البقرة على الإسراع فى صوت خافت جازع ..
واشتد الظلام وغرقت القرى فى لجته ، وأصبح نعمان لا يرى أبعد من مواضع حوافر الدواب ، وكان وهو يرفع نظره إلى الأفق ، ويرتد به إلى الحقول المجاورة ، يرى السنة نيران تشب ثم نحبو فى المزارع البعيدة .. وكان لومضها ولمعانها فى جوف الظلام ، منظر مرهوب ؛ ترتعد له الفرائص رعبًا ..
وكانت البقرة لا تسير على جانب واحد من الجسر ، وإنما أخذت تميل إلى اليمين مرة وإلى اليسار أخرى ، وترك نعمان حبلها على غاربها .. مد لها طرف الحبل كلما تياسرت وقربت من النيل .. وأخذ يرقب قلوع المراكب البيضاء ، وهى لبياضها فى سواد وما هنالك نور يتألق ، ثم يسمع بين الفينة والفينة مجاديف الصيادين وهى تجزر بزوارقها عن الشط ..
وسمع نباح كلاب شديد على العدوة الأخرى من النيل ، بدأ فجأة ، واستمر دقائق كاملة ، ثم خيم سكون الرمس ، وبقيت حوافر الدواب وأظلافها تضرب الأرض بقوة وعنف .
وأشرف نعمان على بستان « عمر » وهو نخيل وسنط وأعناب ولبخ يمتد من حافة الجسر ويغوص فى قلب الحقول ، وكان من أكبر بساتين القرية وأغناها بالثمر وأشدها مع ذلك وحشة . لأنه يترك معظم العام من غير حراس ؛ ولا يخفره زمن الأعناب والتمر ، إلا شيخ طاعن من الفلاحين ..
وأطلت على نعمان فروع النخيل ، وهى تميل مع هبات الرياح وكأنها فى عراك دائم مع أشباح الليل .. فوجف قلبه فرقا ، واندفع الدم إلى رأسه ، ولم يستطع رغم رباطة جأشه أن ينزع عن ذهنه المخاوف المفزعة التى ساورته ، وكان خوفه على الدواب أضعاف خوفه على نفسه بل لم يكن خوفه على حياته يستقر فى بؤرة شعوره إلا إذا تصور القتل على أبشع صوره .. الطعن بالسكاكين والتمثيل بالجسم ، وتمزيقه شر ممزق ثم رميه كأحقر أنواع الكلاب فى النيل ..
وصمت كل شىء حوله ، وبدأ الليل فى هوله مفزعا مرهوبا ، وغاصت الحقول والمزارع فى لجج الليل ، وانقطعت ألسنة النيران البعيدة ، وزادت الثورات النفسية تأججا مشوبة بأقصى ضروب المخاوف ..
وتياسرت البقرة على عادتها لما حاذت سور البستان ، ولعلها كانت تخاف رهبته كذلك ومالت إلى النور الضئيل المنبعث من النيل ..
وخيل لنعمان أنه يرى نور سيجارة تومض فى البستان ... ثم سمع صوت انسان ، وزحف أرجل حذرة ، وتقلب بطن كبطون الثعابين .. وتحركت بعده أوراق الشجر وتمايلت الفروع .. على أن هبوب الريح فى تلك الآونة بشدة طردت من رأس نعمان فكرة وجود الإنسان اطلاقا ، وبقى مع هذا خائفا يتوجس ، حتى خلصت أرجل الدواب من سور البستان .. فتنفس الصعداء ، وأصلح حمل البرسيم المعلق على جانبى الاتان ؛ واعتدل على ظهرها وتهيأ للسير السريع ..
وكان مستغرقا فى خواطر لا علاقة لها برهبة المكان مطلقا .. وانحنى الجسر فجأة انحناء شديدًا ، وتمهلت معه الدواب ، وأطل نعمان على جوف الترعة بجانبه ، وكانت قد عمقت وغابت فى أعماق الأرض حتى بدت كالمغاور السحيقة التى يضل فيها انسان العين ..
وتلفت مذعورا على صوت أقدام سريعة دوت فجأة .. وأخذته على غرة ضربة نبوت قوية من أشد السواعد وأقواها ، حطت على صدغه ، وانقلب بعدها عن ظهر الدابة يهوى من حافة الجسر إلى بطن الترعة كالحجر الساقط من قرن الجبل ، مقلبًا ظهر البطن ، حتى استقر فى قاع الترعة فاقد الحراك ..
وجفلت الجاموسة النافرة ، وانطلقت تسابق الريح إلى القرية .. وانطلقت على أثرها رصاصة طاشت عنها ، تبعتها أختها أسد وأحكم ، فأصابت فخذها الأيمن ، ونفذت منه ، وخرجت تئز وتدمدم فى الجو .. وتقطر الدم من فخذ الجاموسة على الجسر وزادتها الرصاصة هياجا وذعرا .
وقامت على صوت الرصاص الكلاب فى المزارع ، وخف على صياح الجاموسة ونواحها الخفراء والأهالى من القرية ، وخرجوا متفرقين فى المزارع كأشباح الليل الهائجة .
***
انقطع عبد الحق والد نعمان عن صلاة الفجر فى مسجد القرية واحتبس فى منزله أياما طوالا .
ولم يكن مع الذين واروا ابنه فى التراب على الرغم من أنه دفن فى ظلام الليل ، كما أنه لم يتلق تعزية واحدة من انسان ، على عادة أهل الصعيد فى أمثال هذه الأحوال ..
وكانت أشق الأشياء على نفسه أن يجر بعد الحادث إلى بيت العمدة ليدلى بمعلوماته إلى المحقق ، وكانت أجوبته على أسئلة هذا موجزة مقتضبة خالية من دلائل الاتهام ، وإن كان ذهنه قد ابتدأ يحصر الجريمة فى أشخاص معينين بالذات ..
فقد ذكر شجارا حدث بينه وبين بعض جيرانه فى الحقل كاد يجر إلى أوخم العواقب ، لولا أن مشى بينهما بعض الناس ، وذكر نزاعا بينه وبين بعض المالكين عند ضم المحصول ، استعملت فيه الهروات ، كما ذكر أن الغلام نفسه تشاحن مع رفقائه أكثر من مرة ، وكان آخر المشاحنات غالبا التهديد والوعيد .
على أن القتل لم يكن للقتل بل كان للسرقة ، قتل الغلام الأعزل لأن اللصوص استضعفوه فى ظلام الليل وارادوا سلبه مواشيه وقد فعلوا ..
أخذت هذه الخواطر المروعة تطوف فى ذهن الأب وصورة الجريمة على بشاعتها ماثلة أمام ذهنه .. ولم يستطع ، رغم أيمانه المطلق بعدل الله ويقينه الجازم برحمة ربه ، أن يتعزى ويتأسى ..
فلقد فقد بهجته فى الحياة ، ومتعته فى هذا الوجود .. حشاشة نفسه .. ولده الوحيد القائم على زراعته ، الحارس لدوابه ، الجانى لمحصوله ، ولده النافع .. ولم يستطع وهو الرجل الحديد الأعصاب ، الشديد الأيد ، القوى القلب ، أن يأخذ بزمام نفسه ويضبط جأشه ، بل كان دمه تحت تأثير الصورة البشعة التى مات عليها ابنه يغلى فى عروقه ، ويمزق أعصابه ، ويطير لبه ..
وكان الحادث مع وقوع مئات الحوادث من أمثاله فى الريف حديث أهل القرية جميعا ، وكان المغرمون منهم بتصيد الأخبار والإضافة إليها من صناعة وجدانهم يزيدون فى وصف الحادث زياده عظيمة ..
وأخذ شيوخ القرية والراسخون منهم فى الإجرام يسترقون السمع ويمدون البصر علهم يهتدون إلى الفاعل ، ولقد كان نعمان أحسن لهم من فلذات أكبادهم وأطوع لهم من أرحامهم .. وخطا بعضهم بعد جهود متواصلة خطوات موفقة وكاد أن يزيح القناع عن وجه الجريمة .. لولا أن عارضا تافهًا اعترض فى ذلك الحين فضيع هذه الجهود سدى .
***
أخذ عبد الحق على مر الأيام يستبشر بالصبر وينزل على حكم القدر فعاد إلى عمله فى المزرعة بنشاط وعزم ، وأضاف على زراعته فدانين من ضعاف الأرض أخذ على نفسه اصلاحهما وتسميدهما ، وكان موسم الزراعة قد حل فى جزيرة القرية وهى على العدوة الأخرى من النيل ، فبكر مع المبكرين فى الذهاب إليها .. بيد أنه كان يتخير فى غدوه ورواحه أوقاتا تختلف عن أوقات الفلاحين .
وكانت أشد الأشياء وقعا على نفسه وأشدها ايلاما لقلبه ، منظر زوجه فى البيت .. فقد انقلب كيان الأم بعد أن مات عنها وحيدها ..
فذبل جسمها وجف ماء شبابها واصفر لونها ، وتخدد وجهها وبرزت محاجر عينيها .. وكانت المسكينة تنزوى سحابة النهار وطول الليل فى ركن مظلم من البيت ، لا تحادث أحدا ، ولا تخاطب زوجها .. وكان هذا يرى فى بريق عينيها كلما واجهته تعبيرا ناطقًا عما فى نفسها ، وتعنيفًا مؤلما على موقفه كرجل .. على أن الرجل لم يكن مقصرًا قط ..
فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على هذا الحادث المروع فإنه كان لا ينفك يبحث ويتسقط الأخبار ، ويجمع ما يطير من أفواه الناس ، حتى أعياه الأمر وأضناه ، ففتر عن البحث وترك الأمر للأيام وهى وحدها الكفيلة بإظهار الجانى ..
فليست حوادث القتل من الحوادث التى يمكن أن تضيع معالمها ويختفى أمرها عن الناس جملة مهما كان القاتل أو السارق من الحذروالحيطة وبعد النظر ، وبراعة الذهن والتفنن فى ضروب الاجرام .. وقد يحدث عرضا حادث تافه ، أو يجرى حديث بسيط أو يقع أمر حقير .. فيزاح ستر الجريمة ويظهر أمرها للناس ..
والقرويون بطبيعتهم فيهم الصبر وعندهم الأناة .. فما يتسرعون ولا يركبون متن الشطط ، ولا يسددون السهم إلى غير قلبه .. ولا يصوبون إلا إذا أبصروا هدفا ، وتراهم فى كثير من الأحايين يدعون القاتل يمرح ويلهو حتى ينسى نفسه ؛ وهم فى الوقت عينه يضيقون عليه الدائرة وينصبون حوله الشباك حتى يقع فى الفخ .
***
عاد عبد الحق فى ليلة من الليالى من جزيرة القرية متأخرًا على خلاف عادته .. فلم يجد معدية القرية فى مرساها وانتظرها حتى عيل صبره .. فأخذ يتمشى على شاطىء النيل عله يجد زورقا من زوارق الصيادين ينقله إلى القرية .. وكانت الليلة ظلماء ساكنة الريح موحشة الصمت فتثاقل فى سيره وأرهف حسه .. حتى سمع صوت مجاديف خفيفة فمد قامته وسدد بصره فى حجب الظلام فبصر بسواد يتهادى نحو الشط فلبث قليلا ثم هتف بمن فى الزورق ، فألفاه يجزر عن الشط بعد أن كان يقترب منه ، وهى حركة طبيعية مألوفة من الصيادين .. الصيادين من سكان المدينة على الأخص ، فهم يرهبون الريفيين ويتقون بأسهم ويتحاشون وجودهم ، ويتصورون أنهم بالإجماع لصوص فاتكون ما يخرجون فى رهبة الليل إلا لتصيد الناس .. وما أسهل من أن يغير فاتك قروى على زورق من زوارق هؤلاء الضعفاء المساكين، فيسلبه سمكه وماله ، ثم يلقى بمن فيه فى النيل .. !
وابتسم عبد الحق لما رأى الزورق ينقلب على عقبيه ، ويرتد عن الشط .. ثم سار فى طريقه بعد أن صب اللعنات على من فيه ..
واتجه نحو السد حتى غابت عنه القرية ، وانقطع عنه نباح كلابها .. وكان قد قرر الرواح حتى ولو بلغ السد .. ودار كل هذه الأميال ، لأن تخلفه عن بيته سيبعث الوساوس والشكوك فى نفس زوجته الثكلى ، وربما طير صوابها ..
وسمع على بعد صوتا يشبه صوت أقدام تتخبط فى الماء .. فدلف نحو الصوت حتى اقترب منه.. فوجد صيادا يجر زورقا صغيرا ويغالب به التيار الشديد فسر لمرآه ورأى أن يتسلل خفية ، حابسًا صوت أقدامه ، حتى يقترب منه .. فأخذ يتلصص فى مشيته حتى كان بجانب الرجل ، وبادره بالتحية فرد الصياد ، وفى صوته الرهبة ، وعلى ملامح وجهه الجزع ..
فأخذ عبد الحق يحادثه حتى سكن طائره ، واطمأن قلبه ، ثم رجاه أن يعبر به النيل فقبل ، وأخذ يطوى الحبل وفى حركة يديه دلائل التذمر .
وانطلق بهما الزورق وكان الصياد على عكس الصيادين ـ وهم يلزمون دائما جانب الصمت حتى لا تخيب شباكهم ـ ثرثارا كثير الخلط فى الكلام ..
فأخذ يقص على عبد الحق طرفا من سيره ونوادره ، وحوادثه مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول .. ويطلبون الرواح بعد نصف الليل ، وبطونهم خاوية .. !
واستمر فى ثرثرته الفارغة حتى بلغا منتصف النيل ، وهنا انطلقت رصاصة فى الجو ، وهى تدمدم .. وأزيزها عند آذانهم .
فقال الصياد وهو يشد على مجاديفه :
ـ دائما الرصاص فى القرى .. دائما الرصاص فى الليل .. لو كنت واقفا لقتلت ..
فقال عبد الحق وقد نبشت الرصاصة دفائن شجنه :
ـ عمرك طويل ... !
فقال الصياد ضاحكا ، وقد سره أن وجد ما يسل لسان صاحبه بعد طول احتباس وطول صمت :
ـ أجل .. فعمرى طويل حقا .. لقد مرت رصاصة ذات مرة هنا عند شحمة أذنى .. فأخذت أذنى تطن ساعة .. وكان ابن اللعينة « علام » جالسا فى المؤخرة يضحك .. أجل واللّه كان يضحك والرصاص يصافخ رأسى .. وهو رابض كالليث لا يغير جلسته ولا تغيب الابتسامة عن وجهه .. وكانت عيناه تلمعان كعينى صقر يريد أن ينقض على فريسته ..
وصمت الصياد قليلا ليصلح مجاديفه ثم استطرد :
ـ وجدنى الملعون على الشاطئ .. فقال بلهجة الآمر وفوهة بندقيته عند أنفى .. هيا اعبر بى النيل مسرعا .. هيا .. وكان الشرر يتطاير من عينيه .. ثم سمعت على إثر ذلك الرصاص يدمدم .. فأدركت أنه مطارد فحركت المجاديف وأنا أنتفض من الذعر .. وكان يقول بصوت أجش .. أسرع ولا تتحدث .. وإلا فأنت تعرف مصيرك .. وبالطبع أنا أعرف مصيرى هناك عند سفح الجبل ! .. ولهذا لم أتحدث بما جرى لأحد ولن أتحدث ... !
وانطلق الرجل فى ثرثرته وصاحبه لاه عنه بما يدور فى رأسه من خواطر حتى اقتربا من الشاطىء .. وهنا لمح عبد الحق سوادا يتحرك على بعد .. ثم ومض سيجارة .. فلما كان الزورق على مسافة أمتار من الشاطئ ظهر رجل ضخم الهامة ، بادى الطول ، قد عصب رأسه وأسفل ذقنه بعجار أسمر ، وغطى بندقيته وألواح كتفيه بملحفة لا لون لها .. وكان يتمشى وهو يدخن ، فلما اقترب منه الزورق ، قال موجها كلامه إلى الصائد ، وكان صوته خشنا مرهوبا ؛ كأنه يتردد قبل خروجه من حنجرته فى أعماق بئر ما لها من قرار :
ـ أحمد ..
فأجاب الصائد :
ـ نعم يا علام .. مساء الخير .. من أين .. !
ـ من القرية طبعا .. !
ـ وما الذى تريده فى هذه الساعة من الليل يا أخى .. ؟
ـ أريد الرواح .. هل تتصور أنى سأبات هنا ..
ـ لا طبعا ..
ـ من معك .. ؟
ـ رجل طيب من القرية عم ..
فأتمم عبد الحق كلام الصائد :
ـ عبد الحق ..
فصمت الرجل ولم يقل بعد ذلك شيئا ، ووقف يدخن .. وكان الزورق قد بلغ الشاطئ ، فنزل منه عبد الحق ، وواجه الرجل .. ورأى فى بريق عينيه وملامح وجهه الساكنة الصارمة .. ما ألهب خواطره ولما اقترب عبد الحق منه ضاقت عينا الرجل قليلا ، وتقلصت شفته السفلى بعض الشىء ، وانفرجت أسنانه ، فعل من يهم بالكلام ، ولكنه تراجع وتماسك ، لسانح فى ذهنه ، فابتسم ابتسامة نكراء ..
ومر عليه عبد الحق دون أن يحييه .. ولما نزل الرجل فى الزورق ، وقف يرقبه على بعد حتى غاب عن بصره ، واحتواه النيل .
***
كان الشتاء قد حل والقصب قد نضج واستوى عوده وسمقت فروعه .. وكان عبد الحق فى طريقه إلى القرية ، وقد ترك المعدية ، واتخذ لنفسه طريقا وسطا بين مزارع القصب الكثيرة التى لا يأخذها الطرف كانت آلاف مؤلفة من الأفدنة لثراة أهل البلد وعيونها وهى خير محصول وأجنى ثمر ..
وكان الرجل يمضى فى الطريق وحيدا وهو يشخص ببصره من حين إلى حين إلى النيران البعيدة المشتعلة فى أقصى المزارع ، وكان الليل فى هزيعة الثانى والرياح عاصفة ، والبرد شديد قارس ، وحملت الريح إلى عبد الحق صوت كلاب أخذت تنبح بشدة ، ثم خفت صوتها تدريجيًا ، ثم حمى الصوت واشتد مرة أخرى ، وانقطع بعدها فجأة ..
فوقف فى مكانه ورمى بصره فيما حواليه ، وقد ساورته خواطر الريفى الذى يعرف لهذا النباح المفاجئ فى جوف الليل سببا .. ولم تكذبه فراسته .. فقد أهلت عليه من أقصى الطريق ماشية تساق سراعا ، ما لبث أن تجنب بها سائقوها الطريق المألوف ، وتياسروا بها إلى بطن واد قريب يتجه إلى النيل ..
فوقف عبد الحق هنيهة ، وبصره مستقر على الدواب ثم انخرط فى إثرها بعد أن خاف أن يغيب عن نظره .. وسار فى بطن الوادى ثم كمن فى بعض المغاور التى يحفرها الفلاحون لشواديفهم ، ورقب بعينى نسر .. وبعد لحظات مرت الماشية أمامه.. وكانت كلها أبقار من بينها ثور ضخم هائج ، قد من أنفه ، وأخذ من قرنيه ، وكان على الرغم من الضرب الشديد النازل على ظهره وجنبيه ، لا يغير خطوته ، ولا يحرك جلده ، وانما أخذ يدفع رأسه إلى فوق ، ويرمى ضاربه بنظرات ينخلع لها قلب الشجاع ، وكانت الأبقار كلما تحولت عن طريق الثور وحادت عنه ، ترد على أعقابها لتكون وراءه دائما ..
وتصور عبد الحق أنه يرى بقرته فى هذا القطيع ، رأى بقرة تشابه بقرته ، ولكنها لم تكن غراء مثلها .. نظر إلى هذه البقرة وأمعن فيها البصر وقلبه يزداد وجيبه ، والذكريات المرة تنهش رأسه ..
ثم انقلب بصره عنها واستقر على شىء آخر.. على الرجال الثلاثة الذين كانوا يسرقون الدواب ، وعلى واحد منهم على التعيين ، وكان يمشى فى المؤخرة بعد الماشية بخطوات ويتطلع من حين إلى آخر إلى الخلف .. تذكر أنه رأى هذا الرجل بقامته الفارعة ولفتاته ونظراته الحاده .. كان هو علام بعينه الذى حدثه عنه الصياد ، والذى التقى به عرضًا فى تلك الليلة التى تأخر فيها فى الجزيرة كان علام فى هذه الليلة صارم الملامح .. ولكنه كان خفيف اللفتة قلق النظر ، يتأهب للحوادث ..
ولما قربت الماشية من النيل ، رأى عبد الحق مركبا راسية طاوية قلوعها ، ما لبث أن خرج منها نوتيان عرف أحدهما ، كان هو صاحبه الصياد بعينه..! فنظر عبد الحق إلى هذا الرجل ومرت على شفتيه ابتسامة .. ونزلت الماشية فى المركب دون أن يتبادل الرجال الخمسة كلمة واحدة .. وحدث أن سقطت رجل بقرة من الأبقار بين دسر المركب فتركت كما هى ..
وسارت المركب صوب الجزيرة ، وعاد عبد الحق إلى القرية ..
***
وصل إلى سمع عبد الحق ، بعد ذلك الحادث بأيام ، همس يدور على أفواه الناس .. ذلك أن هذه الحيوانات سرقت فى فحمة الليل ، ثم حبست شهورا فى بعض البساتين ، لا تخرج لمرعى ولا تساق لمسقى .. حتى هدأت عنها الألسنة وغفلت العيون .. وهنا سربت على هذه الصورة فى سواد الليل ورحلت مع قطعان كبيرة إلى جهة نائية .. وعلم أيضا أن بقرة واتانا حبسا فى هذا البستان بعينه .. ثم أخذا فى فجر يوم ولا يعلم أحد إلى أين ذهب بهما.. وإن كان يحتمل ـ لأن السرقة صحبتها جريمة قتل ـ إن البقرة ذبحت .. أما الأتان فألقيت فى النيل ، وكان علام هو الذى سرب الدابتين ..
وعلى ضوء هذا واصل عبد الحق جهوده فعلم بعد بحث مضن استغرق أياما أن اللصوص كانوا فى تلك الليلة الشنعاء سبعة .. وكانوا يقصدون مزرعة لبعض الثراة .. ثم فلتت من أيديهم الفرصة ، بعد أن علموا فى اللحظة الأخيرة أن الخفراء ساهرون وعلى أتم استعداد .. والتقوا وهم مرتدون خائبون بنعمان عن عرض فوجدها علام فرصة ذهبية سانحة .. وحرض رفاقه.. فرفض منهم عربيان أصيلان أن يسرقا غلاما أعزل ، على صورة دنيئة لا يرتكبها إلا الجبناء .. ووافق على نهبه الباقون .. وكمن له علام وأخذه على غرة ..
وعرف عبد الحق بعد ذلك الشىء الكثير عن علام هذا .. وهو أنه مجرم يسكن عزبة .. «ج» .. ويعيش على السرقة والنهب .. فيترصد التجار العائدين من الأسواق ويسلبهم ما لهم ومتاعهم ، ويفر بغنيمته فى الحقول فرار الثعلب ..
وهو مع لصوصيته ، لا يغفل نداء قلبه ، وحاجة جسمه ، فهو يتردد على أرمل من جميلات القرية مات عنها زوجها منذ سنين ، وخلفها وحيده الأهل .. وهى مع جمالها سيئة الخلق عصبية المزاج حادة الطبع .. وكانت فى صباها مطمع أنظار الشبان من الأعيان ثم كبرت وترهل جسمها نوعا ، على ممر الليالى ، فتركها هؤلاء .. وانحط مستواها بعدهم وأصبح لها ولع غريب بالفتيان الأشداء الذين دون العشرين ، وكانت تغريهم وتستحوذ عليهم بكل الوسائل ..
وكان يساعدها على هذه الحياة الماجنة بيتها القائم فى طرف القرية منعزلا عن سائر البيوت ، وحوله بساتين كبيرة من النخيل والأعناب ..
وكانت مع حياتها الماجنة هذه تتحدث دائما عن سمعتها وشرفها، وتكثر من الترحم على زوجها .. المرحوم !
وكان علام يتردد على هذه المرأة فى بعض الليالى المظلمة ، ويرجع إلى عزبته عندما يرسل الفجر أول بصيص من النور ..
***
كانت المعدية الأخيرة ، والنقلة الأخيرة ، من غرب النيل إلى شرقه وكانت غاصة بالفلاحين العائدين من المزارع ، والقافلين من السوق ، والراجعين من المدينة .. كانوا يتحدثون عما شاهدوه فى المدينة وما ابتاعوه من السوق ، وقد نشروا على عواتقهم شيلانهم الزاهية ، وملاحفهم الحمراء الجديدة .. كانوا مبتهجين فرحين ، تطوف فى رؤوسهم ذكريات الصور الجميلة التى مرت عليهم ، وأخذت بألبابهم ..
وكانوا يديرون رؤوسهم من حين إلى حين إلى مؤخرة المركب ، حيث يجلس نفر من أبناء الأثرياء الراجعين من المدرسة ، والعائشين فى المدينة ، كانوا عندهم صورة حلوة للعيش الرغد ، والتمرغ فى النعيم ، والتمتع بمباهج الحياة وملذاتها دون أن يضربوا فأسًا أو يبذلوا جهدا.. كل جهودهم تنحصر فى تقليب صفحات كتاب .. ! وهل فى هذا جهد .. هل جهود سكان المدينة جميعا من هذا الطراز .. إذن ما أحلى العيش فى المدينة ..
كانوا ينظرون إلى هؤلاء الطلاب نظرة إكبار وإجلال ، وهم خير مثال يحتذى ؛ وخير آمر يطاع ، كانوا ينصتون إلى كل كلمة تخرج من أفواههم ، وكل حديث يدور بينهم لعلهم يهتدون إلى نور العلم ، ويخرجون من الظلمات ..
وكان النسوة الجالسات فى ركن منعزل من السفينة يتطلعن إلى هؤلاء الطلاب ، ويملن على بعضهن هامسات باسمات ، وخدودهن الوردية تفيض بماء الحياء ، وعيونهن الناعسة تلمع ببريق أخاذ ..
وكان عبد الحق وعلام من ركاب هذه السفينة أيضًا بيد أنهما لم يكونا متجاورين .. كان كل منهما يحادث رفاقه .
أما صاحب السفينة وقائدها فقد أسند جنبه الأيمن إلى مقبض الدفة ، وطفق يتطلع إلى السماء ويرقب القلع .. ثم عالج أخيرا حبلا قريبا منه ، وشد به على ناصية القلع .. عله يشيل .. ولكن هيهات .. ! فقد كان الهواء معاكسًا والتيار القوى يرد السفينة إلى الخلف أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام .. حتى وقفت المركب فى وسط النيل ، كأنها لا تتحرك ، أو كأنها تتراجع ..
وأخيرا صاح النوتى وهو يحول الدفة :
ـ حسن .. عباس .. هيا يا أولاد إلى المجاديف ...
فنهض إلى المجاديف أربعة من الشبان الأشداء ، ظهر أثر تجديفهم بعد قليل من الزمن ، فقد تقدمت المركب مغالبة التيار ، على أن النوتى لم يقنع بجهود الشبان الأقوياء فأخذ يهيب بهم ويحثهم بقوله :
ـ ما هذا .. ! ما هذا التجديف ..! رحم اللّه أيام الشباب .. كنا نقود أنا وصالح مركبا تحمل خمسمائة أردب ونحمل الأردب من القمح .. كما يحمل حسن حزمة من القش ..
فقال أحد الطلاب يمازح النوتى :
ـ ومع هذا فقد ضربك عبد المقصود وطير أسنانك ..
ـ من قال لك هذا يا بنى .. ؟ .. هل كنت حاضرا .. ؟
صحيح أنه ضربنى ولكنه لم يطير أسنانى .. وقد شكوت هذا الشاب الطائش إلى ربى فانتقم منه شر انتقام ..
ـ عندما يضربنى رجل على فكى الأيمن ، لا أدير له الأيسر ، وإنما أضربه على أم رأسه فأطير فكيه معًا ..
فسأله أحد الفلاحين وهو يضحك :
ـ وإذا ضربتك امرأة .. ؟
ـ أعرف كيف أرضيها .. !
ـ ها .. ها ..
واتجه الفلاحون جميعًا إلى هذا الطالب .. وقد كان كلامه طيب الوقع على نفوسهم .. وإن كانوا لا يتوقعون منه مثل هذا الكلام .
واعترض عليه أحد رفقائه :
ـ كيف تطير فك مخلوق بشرى مثلك .. هذه وحشية وفظاعة .. واجرام .. دع أمره إلى اللّه وهو خير مقتص ..
ـ هذا صحيح .. أنا مسلم بأنى لو ضربت انسانا مثلى على أم رأسه أعد فى نظر الناس ، ونظر الاجتماع وحشًا وفظًا غليظ القلب .. ولكن المرء فى مواقف كثيرة لا يملك أمر أعصابه ، وزمام نفسه .. يعود إلى فطرته ، إلى طبعه البكر قبل أن يهذب ويشذب ، فلا يرده حلم ولا يردعه زاجر .. عندما يضربنى انسان فيطير لى سنة لا أدعه حتى أحطم أنفه .. أفعل هذا دون وعى منى ، ثم بعد ذلك أفكر هل أحسنت صنعا بعمل هذا أم أسأت .. هل فى عملى هذا وحشية وجرم .. أفعل هذا ثم يأتى بعد ذلك دور التفكير ، ودور الندم .. من منكم يستطيع أن يغل يده إلى عنقه عندما يعتدى امرؤ على عزيز لديه .. ابنه .. فلذة كبده ..
ـ هذه أعمال اجرامية تجر إلى الفوضى ..
ـ هذا حق .. ولكنها قد تحدث عكس ما تتصور تماما ، فمتى عرفت أنك متى صفعتنى سأصفعك ، تراجعت وجبنت حتى ولو كنت أشجع الشجعان .. من منكم يجرؤ على صفعى الآن وأنا ألقيه فى النيل .. ! ..
فقال شيخ مهدم :
ـ أنا ..
ونهض .. فضجت المركب بالضحك ..
وكان عبد الحق ينصت إلى هذا الحوار الدائر بين الشبان باهتمام شديد .. والخواطر السابحة فى قرارة ذهنه قد طفرت وعادت تهيمن على شعوره ، ومازال يغالب انفعالات نفسه ، حتى غفل عما يدور حوله واستغرق فى أمر نفسه ، وهو شارد ساهم ..
ولما فتح باب منزله فى غلس الليل كان قد اعتزم أمرا ..
بارح عبد الحق منزله فى ليلة من الليالى وسار صوب المزارع ، وكان يمضى سريعًا وفى جسمه قوة لم يعهدها من قبل ، وكان مستريح الذهن هادىء البال ، قد أزاح عن صدره كل ما كان يثقله ، وصرف عن ذهنه كل ما كان يقلقه ويحيره فى الماضى ، ووجه نفسه إلى أمر واحد تجمعت فيه قوته وحيويته .. ولهذا شعر بدم الشباب يسرى فى الياف جسمه ، وبقوة عظيمة تحمله على المضى فى طريقه ..
وكان يرتدى رداء أسود فوقه عباءة من الصوف الثقيل ، وتحت هذه بندقية من النوع الجيد .. وكانت الليلة حالكة الظلام ، شديدة الريح ، والشتاء فى صميمه ؛ وبرده الحاد يقطع الأنفاس ويحبس الناس فى بيوتهم من الغروب فلا يتخلف من الفلاحين فى الحقول إلا أولئك الذين اتخذوا للشتاء عدته ، فبنوا لأنفسهم عرائش من عيدان الذرة ، وأشعلوا حولهم النيران وجلسوا يصطلون ..
وكان عبد الحق لا يقصد حقلا من الحقول البعيدة التى يتخلف فيها الفلاحون ، وإنما كان يقصد حقلا قريبا من القصب يطوق الجانب الشرقى من القرية ، كان يمر فيه علام كلما عاد من منزل المرأة التى يتردد عليها .. اتقاء للعيون ، ودفعا للشبهات ..
ولما بلغ هذا الحقل مضى قدما فى طريق ضيق بجانبه ، ثم ارتد إلى حيث اختار ودخل بين القصب ، وجلس متمددا يدخن ..
ومضت عليه ساعة .. وعادت بعدها إليه الهواجس التى كانت تبلبل خاطره من قبل ، رجعت إليه خواطر المتردد ..
رجعت إليه الصور التى تمر على المجرم قبل الساعة الفاصلة .. قبل ارتكاب جرمه بلحظات .. والتى يخرج منها وقد قطع بأمر .. وقف وقفة الرجل الحائر عند مفترق الطرق المتشعبة والذى لا يدرى من أين يمضى ويسير ..
عاد إلى إنسانيته ، وإلى طبيعة الخير فيه ، تذكر وتصور لأول مرة فى حياته أنه سيقتل إنسانا ، بشريا مثله من لحمه ودمه .. عربيا من جنسه .. شابا ناضر الأهاب فتى العود أمامه الحياة الطويلة ، وليس شيخًا مثله قد بلغ من العمر أرذله ؛ ومن الحياة منتهاها .. بيد أنه شاب متمرد .. شاب تمرد على الحياة ، وتمرد على الاجتماع ، وخرج على القانون ، وغدا مجرما .. ولكن من الذى دفعه إلى الاجرام ، من الذى رمى به فى هذه الطريق .. ؟ من الذى سلبه نفسه وقلبه وجرده من انسانيته ورجع به إلى وحشيته الأولى وجاهليته الأولى ، من الذى ألقى به إلى التهلكة فأصبح منبوذًا مطرودا ؟ من الذى فعل به كل هذا ؟ ظلام الجهل بلاء الفقر قسوة المجتمع ، هل فى هؤلاء الغلمان المهذبين من أبناء الأعيان الذى رآهم فى المركب منذ أيام متمرد .. ؟ هل فيهم جاهل تقرأ على وجهه دلائل الإجرام كما تقرأ على وجوه هؤلاء الريفيين الذين يتقاتلون على أتفه الأشياء ..
لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ..؟ ليأخذ بثأره .. ولماذا يأخذ بثأره ..؟ لماذا يفعل هذا ..؟ لماذا لا يدع الأمر لربه ..؟ وهو خير مقتص .. لماذا يثور هو الآن ويضطرب اضطرابا لم يعهده فى جسمه .. ؟ لماذا يتراجع بعد أن أجمع أمرًا .. لماذا يفكر هكذا .. ؟
لماذا قتل هذا المجرم ابنه .. ابنه الوحيد الحبيب نعمان .. مبتغاه فى هذه الحياة الدنيا ، ضربه ورماه فى جوف الترعة فى هذه الصورة المنكرة .. ؟
وأصبح عبد الحق لا يرى الآن إلا ابنه .. ولم يكن يراه وهو يعمل فى الحقل ، أو وهو راجع من المزرعة ، وإنما رآه وهو ملقى فى بطن الترعة مضروبا كأحقر الكلاب ..
وهاج على هذه الصورة هياج الليث الكاسر .. ومسح العرق ، ورمى طرفه إلى أقصى ما يبصر ..
وسمع حسا فأنصت وسدد بصره ، وانبطح على وجهه ، وألصق البندقية بكتفه الأيمن .. وصوب ماسورتها من بين عيدان القصب ، وكان قد تخير مكانا مناسبا فى بطن الحقل يشرف منه على طريق صاعد قرر أن يأخذ فيه غريمه .. وجذب أكرة البندقية وسمع حركة الرصاصة تندفع إلى الماسورة متهيأة لضغط الزناد .. وكتم أنفاسه وأنصت .. ومرت ساعة رهيبة وعاد كل شىء ساكنا موحشًا ..
وتحركت عيدان القصب ، ورجعت الرياح تعصف ، واشتد البرد واستولى على عبد الحق القلق ، وخاف أن تفلت منه الفرصة .. وسمع فجأة حس إنسان ووضح الصوت وكان يعرف صاحبه ، فتراجع إلى الوراء خطوات وعينه لا تتحول عن الطريق ، وقرب صاحب الصوت .. وكان سقاء القرية يمشى وراء حماره الذى حمله بالقرب حتى انحنى ظهره ، وهو يضربه ضربا موجعا مع أنه ضامر هزيل أعرج .. ولما قرب السقاء من مكمن عبد الحق تلفت .. كأنه يسمع أنفاسا .. ثم مضى وراء حماره وقد حلى له أن يغنى ..
وعاد عبد الحق إلى مكانه الأول ، وقد شعر بعد مرور هذا السقاء بالارتياح الشديد ، وقد انتفت عن رأسه الهواجس التى ساورته أول الأمر ، وهو متردد بين الاقدام والاحجام ؛ وعاوده الحنين إلى الانتقام وأصبح فى الساعة التى تمر على المذهول ، وقد وقفت سلسلة أفكاره جملة ، وغفل عن كل شىء حوله إلا ما انتوى ..
وكانت الرياح كلما توغل الليل تزداد شدة وعصفا ؛ فثارت ثورة النيل ، وهاجت مزارع القصب وتمايلت بساتين النخيل ، وتطايرت فروع الزرع الجافة واغبر الجو واكفهر ، فجمع عبد الحق حواسه كلها فى باصرته ورقب الطريق ..
ولاح على بعد شبح انسان ، ثم رجل فى ثوب داكن وقد غطى رأسه وعنقه .. وكان ثابت الخطوة يمشى على مهل ، ولا يعير باله لما يجرى حوله ، ولما قرب من مكمن عبد الحق تمهل فى سيره جدًا ، وتلفت كالمذعور .. وهنا صوب عبد الحق ونشن وضغط على الزناد .. وبصر به يهوى مع ومض البارود .
***
أخذ عبد الحق سمته إلى المقبرة لأول مرة بعد حادث ابنه ولقيه فى الطريق وهو راجع منها قبل الفجر مجذوب من هؤلاء المجاذيب الذين يترددون على الأذكار فشخص فى وجهه ثم مد له يده وعلى شفتيه إبتسامة بلهاء وقال له :
إنا لله
فانتفض عبد الحق ومد إليه يدًا ترتعش والتقت أعين الرجلين ، وكانت عينا المجذوب تلمعان فى بلاهة وخبث .. أما عينا عبد الحق فقد أخذتا تنطفئان بالتدريج ..
===============================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " عام 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================
سوق السبت
قصة محمود البدوى
كان غطاس أحد تجار الأقمشة الذين يذهبون إلى سوق السبت فى قرية رافع .. وهى قرية صغيرة فى قلب الصعيد .. وكان أول من يدخل سوق القرية بحماره الرمادى الأشهب .. وأول من يجلس تحت المظلة الطويلة فى ساحة السوق .. وآخر من يبرح السوق من التجار ..
وما من قروى لم يعرف غطاس أو يتعامل معه .. أو يشترى منه « غزلية » أو ثوب دمور أو جلابية زفير .. وما من قروية لم تشتر منه طرحة أو منديل رأس .. أو جلد الفيل ..
ــ صباح الخير ..
ــ خير عليكى ..
ــ جايباها منين الجلابية دى ..
ــ من عند غطاس ..
وكان غطاس يتردد على سوق السبت منذ سنين .. وهو آمن مطمئن على بضاعته وماله .. لأن القرية آمنة وعمدتها الشيخ مهران .. رجل قوى مرهوب الجانب ..
فما من حادثة قتل أو سطو أو سرقة وقعت فيها وهو عمدة ، وما من حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز ..
وكان الفلاحون يذهبون بمواشيهم إلى الحقول ويعودون منها فى ظلام الليل فلا يعترضهم مخلوق .. ويكومون المحاصيل فى الأجران ويتركونها فى حراسة الغلمان .. ولا يجرؤ انسان على الاقتراب منها أو مد يده إليها فالجميع يعيشون فى أمان مطلق ..
وكان الشيخ مهران مع قوته وجبروته تقيا عادلا .. يأخذ من الأقوياء للضعفاء ، ويسوى الأمور بين الناس على أحسن وجه .. وكان الجميع يعتبرونه أبا كبيرا .. حتى قلت المنازعات والخصومات بين الفلاحين أمام القضاء ..
ولذلك روع الناس وذهلوا عندما وجد غطاس مقتولا ذات يوم وهو عائد من السوق ..
وكان الشيخ مهران فى ذلك الوقت مريضا مرضا خطيرا حتى يئس أهله من شفائه وصوتوا عليه فعلا ذات ليلة ..
ولذلك كتم وكيل العمدة عنه الحادث وهو يرتعش من مجرد تصوره ما سيحدث لو علم .
وعلم العمدة أخيرا بالحادث فثار ثورة عنيفة ..
وسأل الشيخ عبد الرازق وكيل العمدة ..
ــ هل عرفت القاتل .. ؟
ــ الولد عبد الموجود .. كان بايت فى المسطاح .. جنب الجسر .. ومر عليه غطاس ..
ــ عبد الموجود لا يجرؤ على قتل فرخة وأنا حى .. يا شيخ الخفر هات لى فطوم ..
وأسرع شيخ الخفر لاحضار فطوم ..
وكانت فطوم أرملة فى العقد السادس من العمر .. تسكن فى شرق البلد فى بيت على الجسر .. ولها ابن وحيد يدعى عليان .. وكان يعمل فى المزارع والنجوع البعيدة .. فى الغرب .. على العدوة الأخرى من النيل .. وكان فاسدا شريرا بدد فدانين تركهما له أبوه على « الغوازى » وفى المواخير فى المدينة ..
ولم تكن أمه فطوم تراه إلا قليلا .. لأنه كان يقضى الليل حيثما اتفق .. وكان مع الجراة الشديدة وحب المغامرة والتسلط ـ وهى الصفات التى ورثها عن أبيه ـ يخشى الشيخ مهران .. ولهذا هجر القرية ..
وكانت فطوم تملك على امتداد بيتها أربعة قراريط تزرعها بنفسها طماطم.. وبامية .. وملوخية .. وفجلا .. وبعض اللفت .. وتسقيها بسهولة من ماء الترعة .. وتعيش من ثمن هذا الخضار قانعة راضية .
وكان أهل القرية يرونها وهى ترفع وجهها إلى السماء ... داعية على ولدها العاق .. وكانت سافرة الوجه جسورة .. لم ينحن ظهرها بعد .. وقد اكتسبت من العمل المتصل فى حقلها الصغير صحة وقوة ..
***
دخلت فطوم على العمدة .. بعد أن وضعت بجانب الباب عصاها الطويلة من الجريد .. وكانت هذه العصا تلازمها دائما .. لأنها تحرس بها الخضار الذى تزرعه من الفروج .. والأوز والبط ..
وقالت وهى تحدق فى العمدة الراقد فى الفراش ..
ــ عوافى يا بو محمد ..
ــ عوافى .. يا فطوم .. لسه برضه قاعدة شديدة يا فطوم ..
ــ الصحة ليك يابو محمد ..
ــ فين عليان .. ؟
ــ ما عرفش يا حضرة العمدة .. لى شهرين ماشفته .. ولا وقع عليه نظرى.. قطيعه .. ربنا يفتكره برحمته .. ويأخذه .. قطيعه تقطعه ..
ــ الخفير اللى على البحر شافه معدى فى العشية ..
ــ أبدا .. يا حضرة العمدة .. أبدا .. واللّه ماجه .. وحياة الشيخ العريان.. وسيدى جلال ..
ــ طب روحى يا فطوم ..
ــ اللّه يخليك لينا .. ويشفيك .. ويوتق حزامك ..
وخرجت فطوم .. واجتازت ساحة الدوار .. ومشت متئدة الخطو رابطة الجاش .. من العرصة إلى الجسر وعصاها الطويلة فى يدها ..
***
ولم يصدق الشيخ مهران ما قالته فطوم .. وظل يبحث عن القاتل .. وبعد بضعة أيام وكان لا يزال مريضا فى فراشه .. سمع بكاء امرأة فى ساحة البيت .. فسأل عنها .. وعرف أنها نرجس زوجة غطاس .. جاءت لتشكو حالها .. وأمر بادخالها عليه .. فدخلت لابسة السواد وخلفها ثلاثة أطفال وعلى صدرها رضيع ..
وقالت وهى تبكى :
ــ جتلك بأولاد غطاس المساكين .. يا حضرة العمدة .. مين يوكلهم كلهم .. ودم أبوهم راح هدر .. ؟؟
ونظر الشيخ مهران إلى الأطفال اليتامى .. وتأثر وأخذ منه الحزن .. وقال لنرجس وهو يعطيها بعض النقود :
ــ خدى .. وروحى .. يا نرجس .. وانا عارف اللى علىّ ..
ــ دا كان بيجى السوق على حسك .. من عشرين سنة ما انسرقتش معزاية من بلدك ..
ــ روحى .. يا نرجس ..
ــ ربنا يبارك فيك .. ويشفيك ..
وخرجت نرجس تجر أطفالها ..
***
وبعد أيام قليلة عرف الشيخ مهران القاتل .. ولم يكن غير عليان الذى خطر بباله لأول وهلة .. وعرف الشيخ مهران أن عليان بعد أن قتل غطاس وسرق الثلاثين جنيها التى كانت معه فى جيبه .. ألقى كيس القماش فى النيل.. وذهب إلى صاحب له فى النجع ..
وظل الشيخ مهران وهو فى فراشه يتقصى أخبار عليان حتى علم ذات ليلة أنه عبر النيل فى غبش الظلام ومعه بندقيتة وذهب من شروق البلد إلى أمه.. فأرسل الخفراء ليطوقوا البيت ..
وقال لشيخ الخفر :
ــ عاوزه .. حى ..
وبعد قليل علم الشيخ مهران أن عليان أحس بالخفراء قبل محاصرة بيته .. وهرب كالثعلب ..
وخشى الشيخ مهران أن يفلت منه القاتل إلى الأبد .. فتحرك من الفراش وهو ينضح عرقا .. وتناول بندقيته وخرج من بيته .. ولما رآه خفير الدرك جرى وراءه ليرافقه ..
فقال له الشيخ مهران :
ــ خليك يا عباس .. وخذ بالك من النقطة .. وقل لشيخ الخفر أن رجع فاضى .. يطوق جنينة عبد الكريم .. يمكن الولد فيها ..
وسار الشيخ مهران على الجسر وحده .. وكانت مياه الفيضان تغمر الأرض كلها والظلام رهيبا .. وكان الرجل مع مرضه يمشى قويا وقد جمع حواسه كلها فى باصرته .. وكان قد لبس رداءًا خفيفا أسود .. وتلثم .. وتمنطق بحزام وضع فيه أكثر من مائة طلقة .. فإنه يعرف جيدا الرجل الذى يطارده ..
وكان يفكر فى الأرملة المسكينة نرجس وأطفالها .. والظلام الذى شملهم والبؤس الذى تردوا فيه .. والجوع الذى ينتظرهم دون جريرة أو ذنب جنوه فى الحياة ..
وكان يغلى غيظا لمجرد تصوره أن عليان هذا الشرير .. سيفلت منه دون أن ينال القصاص .. كان يريد أن يجتث الشر من جذوره .. وتحت تأثير هذا وهو مريض .. وسار وقد شعر بقوة خارقة تدفعه إلى التقدم .
وبعد ساعتين عثر على عليان فى ماكينة رى .. وأدرك الشيخ مهران بعد الرصاصات الأولى التى أطلقاها .. أن المجرم منبطح على سطح الماكينة ويحتمى بصهريج المياه والاقتراب منه فى هذه الحالة انتحار مؤكد .. فدار يتلصص ويخوض فى القنوات .. حتى تسلق مرتفعا يشرف على بناء الماكينة .. وأطلق الرصاص .. وتصارع الرجلان صراع الجبابرة ..
وأدرك عليان من أول رصاصة أطلقت أنها ليست بندقية شيخ الخفراء ولا بندقية خفير .. وأن الذى أمامه رجلا آخر .. رجلا كان يخشاه أكثر من الموت .. ويتصور أنه لن يترك الفراش أبدا .. وأنه راقد هناك .. ولكنه تحرك وجاء ليطارده .. وصوت بندقيته يدوى وقد خرج إليه وحده .. وليس معه خفير واحد .. لا ليقبض عليه وانما ليفعل شيئا آخر ..
وثار عليان وأطلق الرصاص فى جنون .. ولكن الشيخ مهران أسكته إلى الأبد .. فخر فى معجنة للطوب صريعا ..
***
ورجع الشيخ مهران يمشى على الجسر وحده وقد سكن الليل وعاد السكون يلف كل شىء ..
وخرجت القرية كلها على صوت الرصاص تستطلع الخبر .. وعلموا أن العمدة المريض .. خرج وحده فى الليل .. وقتل عليان ..
وسار الشيخ مهران على الجسر .. وخلفه الفلاحون يباركونه .. وقبل أن يدخل مدخل القرية صوبت إليه رصاصة .. وسقط ..
***
ورأى الناس فطوم .. واقفة على سطح بيتها وبيدها بندقية .. وكانت منتصبة القامة .. شامخة الأنف .. وكان منظرها وهى واقفة يلقى الرعب فيمن حولها .. فلم يجرؤ انسان على الاقتراب منها ..
===============================
نشرت القصة فى مجلة الثورة 9/9/1954 وبمجوعة قصص لمحمود البدوى " العذراء والليل " وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)