الطلقة الاخيرة
قصة محمود البدوى
كانت زراعة القمح هى الزراعة الغالبة فى قريتنا .. وكان محصوله يأتى بأجود غلة فى المنطقة على الإطلاق ..
وكانت أيام الحصاد هى عيدنا كل سنة .. وكنا نتخلف عن المدرسة بسببها .. حتى وإن اقترب الامتحان .. وعندما يتكوم القش فى الأجران وتدور عليه النوارج .. كنا نشعر بالبهجة الحقيقية للإنسان ..
وبعد الدريس .. نبدأ فى تذرية الجرن فى الليالى القمرية الطيبة الريح ..
ولما تنفصل الغلة عن التبن .. ونراها فى أكوام مخروطية ضخمة يبلغ بنا الفرح مداه .. ونحرسها من « العين » بالنواطير .. التى نقيمها فى طريق المزرعة .. ونزيد من البركة .. بالقلة الفخارية الممتلئة إلى حافتها بالماء نغرسها فى الغلة ..
وكانت أحسن أنواع القمح نزرعها فى الجزيرة .. حيث الأرض العذراء التى لم يمزق تربتها السماد ..
وكانت الجزيرة تبعد عن القرية بمسافة أربعة فراسخ .. وتقع على العدوة الأخرى من النيل ..
وكنا عندما نذهب إليها لندخل المحصول فى المخازن .. ننقطع انقطاعا كليا عن القرية ما يقرب من الشهر وكانت هذه الأيام هى أجمل أيام حياتنا .. كنا نحس ببراعم شبابنا تتفتح للحياة فى الشمس الضاحكة .. والهواء الطلق .. وكنا نستحم فى النيل .. ونجرى حفاة الأقدام .. ونصطاد السمك المتدفق من الفيضان .. ونشعر بأن حريتنا تأخذ كل مداها وكل طاقتها ..
وكنا نقضى ساعة القيلولة فى الخص مستظلين من وهج الشمس الحامية نلعب الطرطقة .. والسيجة ..
وكانت حولنا .. الماشية والطيور متروكة على سجيتها ، وهواها ..
وكانت الجمال باركة تجتر .. والثيران والابقار فى صف واحد وأمامها التبن المخلوط بالفول والنخالة .. والجاموس بعد أن أستحم .. فى النيل .. نام على الحشائش وجلده يلمع تحت ضوء الشمس .. وطيور .. الدجاج .. والبط .. والأوز .. ترعى الحب .. كما اتفق .. وتستحم فى مجراة « الوابور » ..
وكان بجوار الوابور .. صف من المساكن .. من الطين والبوص وجريد النخيل .. وكان الأطفال يلعبون فى الطين والوحل .. وثيابهم ممزقة .. وعيونهم متسخة .. ووجوههم ملطخة بالوحل .. وأمهاتهم فى الداخل ينفخون النيران .. أو فى الخارج يملأن القدور أو البلاليص .. من مجراة الوابور .. أو ينحدرن فى الطريق إلى النيل .. وعلى رؤسهن الطرح ..
فإذا جاء العشى .. افترشنا الدريس تحت السماء المتألقة بالنجوم وأخرج أبو طاحون المزمار الطويل من جرابه وأخذ يزمر .. وكانت عنده قدرة عجيبة على النفخ دون أن يسترد أنفاسه .. وبراعة فى إخراج أعذب الأنغام .. وكان جمالا قوى البدن يقود أربعة من الجمال الضخمة .. ويلبس نعلا طويل العنق مضفرا .. وإذا جلس إلى المزمار .. نسى نفسه .. واستغرق فى فنه .. وكنا عندما نجلس حوله ننسى أنفسنا كذلك وننسى كل ما يجرى فى الحياة الخارجة عن نطاق حدودنا ..
وكانت لنا ثلاثة أجران كبيرة .. لا تتغير أبدا .. ولم نكن ننقص أو نزيد من مقدار الأرض التى نزرعها قمحا بمقدار قيراط واحد .. أو نغير من موقع الجرن .. كان كل شىء يجرى على ترتيب ونظام دقيقين .. منذ حياة جدى عبد المنعم .. فلما خلفه والدى سار على نسقه ومنهاجه ولم يغير طريقته وترك بيت « الوسية » يسير كما كان ..
وكان الشىء المتصل بالحصاد دائما والذى يبرز بمجرد حدوثه .. هو حارس الأجران عمار .. وكان يحرس أجراننا منذ ثلاثين سنة .. ولم يغير فى خلالها موضع خصة المجدول بالليف ..
وكان عمار .. فى الفترة التى سبقت هذا العمل من أشد الرجال بطشا .. كان اسمه يرعب القلوب الفتية ..
وقد ظل الرجل طوال هذه السنين .. وحتى بعد أن انقطع عن حياة الليل .. محتفظا بكل جبروته .. وكل قوته .. وكان متوسط الطول يرتدى جلبابا من الصوف المغزول ولبدة حمراء وفى وجهه المستطيل نمش خفيف .. وفى عينية نظرة الليث إذا خرج من عرينه ..
وحتى بعد أن كبر وانحنى جذعه قليلا .. ظلت النظرة الكاسرة من أبرز صفاته ..
وكان حليما خفيض الصوت .. يجرد يده من السلاح .. فى النهار والليل .. وكان إذا حدث ما يثيره سمعت لبندقيته زئير الأسد ..
* * *
وكانت الجزيرة لرداءة مواصلاتها .. وبعدها عن نقطة البوليس تكثر فيها حوادث السرقة والنهب .. وقل من يتحرك فيها فى الليل لهذا السبب ..
ولكن منطقة عمار كانت من أكثر المناطق أمنًا .. وكان الفلاحون يجلسون بجوار خصه ويلوذون به .. ليصبحوا فى المنطقة الآمنة ..
وكان الرجل يسر جدا عندما أجىء إليه فى الأسبوع الثانى من شهر يونيه ومعى بعض الكتب التى أتسلى بقراءتها فى هذا المكان المنعزل ومع أنه لا يعرف القراءة والكتابة .. ولا فرق عنده بين الحروف العربية والحروف الصينية .. ولكنه كان يسر جدا من النور الذى يتصوره دوما يشع من الكتب .. وكنت فى نظره مثالا للشباب المتزن المتنور .. يقارننى بأبناء من يعرفهم من الفلاحين الذين يدفعهم الفقر والجهل إلى الجريمة .. ويشعر فى قرارة نفسه بالأسف لأن أولاده شبوا جهلاء مثله .. ولم يكن فى استطاعته أن يصرف عليهن ويعلمهن فى البندر ولم تكن هناك مدرسة فى القرية ..
وكان عنده ثلاثة أولاد وبنت واحدة .. وكانت البنت متزوجة .. وأكبر الأولاد يعمل فى المراكب .. أما الولدان الآخران فكانا يعيشان معه .. وكان خليفة أكبرهم .. وكان فى العشرين من عمره .. طويلا مفتول العضلات .. وكان يرعى الغنم فى الجزيرة .. ومن الغروب .. يسرحها .. ويعود لبيته .. أما الولد الثانى تغيان فكان أصغر أولاده وكان يساعد والده فى عمله ..
* * *
وكنت على الرغم من وجود الكتب معى فى هذه المنطقة .. أشعر بالسأم من الحياة الرتيبة التى يعيشها الفلاحون ، وكان الخص فى مواجهة غيط من الذرة الشامية كان ملاصقا للاجران فكنت أرقب منه .. الفلاحين وهم يعزقون الأرض ويسقون الزرع .. من مجراة الوابور .. وكنت كثيرا ما أسمع صراخ النسوة فى البيوت القريبة منا .. ثم أرى على الأثر جموعا من الفلاحين خارجين من الغيطان بفئوسهم وهراواتهم .. ومن عيونهم يطل الشرر ..
ولكن مجرد ظهور عمار من بعيد كان يغير الموقف فى الحال ويطفىء هذه النار المشتعلة .. وينسحب الفلاحون وتنفض جموعهم قبل أن يقترب منهم .. لم يكن أحد منهم يجرؤ حتى على رفع صوته فى حضرته ..
وكنت أسأل عن سبب هذا العراك فأعرف أن نعجة لفلاح أكلت من غيط فلاح آخر .. ولهذا السبب التافه تدور المعركة الحامية التى تسيل فيها الدماء .. ولولا وجودعمار فى تلك الساعة لسقط أكثر من صريع .. كانوا يتعاركون لاتفه سبب ويقضون النهار فى منازعات على القيراط والسهم ويتوجسون شرا من كل إنسان .. فما من إنسان ينفعهم أو يرعى حالهم وانما الكل يأخذون منهم ولا يعطونهم شيئا ..
وكان هذا الاحساس بالظلم ينفجر عندهم فى ظلام الليل ويدفعهم إلى السرقة وإلى السطو على العزب والقرى المجاورة ..
* * *
ولم أشاهد فى الأسبوع الأول والثانى من إقامتى فى هذا المكان .. إلا الوجوه التى ألفتها .. ولكن بمجرد ظهور الغلة ظهرت الرجل الغريبة .. ظهر الباعة على الحمير ومترجلين يبيعون المناديل الزاهية .. وأثواب الدمور والشاى والدخان .. وقطع الصابون المعطرة ..
وكانوا يأتون من البندر ومن القرى المجاورة ..
وفى عصر يوم مرت على الأجران امرأة وكانت تحمل على رأسها صرة كبيرة فيها كل ما يحتاجه الفلاح .. من دخان .. ومناديل .. وكل أصناف الأقمشة الشعبية .. ولما رأتنى وحدى فى « الخص » اقتربت منى .. ورأيت لها وجها صبوحا وعينين دعجاوين .. وفما غليظ الشفة وحسنة كبيرة على الخد وحلقة مغروسة فى الانف الدقيق .. وعرضت كل ما عندها من بضاعة.. وألحت لأشترى منها شيئا بدلال الأنثى الناضجة .. ولكنى رفضت.. فذهبت بهدوء إلى النخيل ..
وفى اليوم الثانى جاءت فى نفس الميعاد تعرض بضاعتها ، وأصبحت تجىء كل يوم ..
وعرف الفلاحون أن اسمها ناعسة .. وكنا لا نستطيع أن نشترى منها شيئا لأننا كنا نتعامل بالغلة .. وكنا لم نضرب الكيلة فى الغلة بعد ..
ونتشاءم جدا من مس أكوام الغلال قبل أن ندخل شيئا منها فى البيوت ..
وفى عصر يوم شاهدتها .. ترقص على مزمار أبو طاحون .. وكانت مثيرة فى رقصها وحركاتها .. والبريق المشع من عينيها ..
وظل السامر مشتعلا إلى الليل .. ثم أطفأت بفمها النار .. وانثنت وحملت صرتها .. وذهبت إلى النخيل .. وظللنا نتبعها بأبصارنا حتى توارت ..
* * *
وشغلنا فى صباح اليوم التالى بإدخال المحصول .. بدأنا بأول جرن وأخذت الجمال تحمل الزكائب وتسير فى صف طويل ..
وكانت قوة الشباب من الفلاحين .. تظهر فى أثناء هذا العمل .. كانوا يعملون من شروق الشمس إلى غروبها دون كلل .. وكان منهم من يرفع الزكيبة فى رفعة واحدة ..
ولاحظت من اليوم الأول أن خليفة ابن عمار .. هو أشد الفتيان قوة ..
كان يبزهم جميعا .. يرفع عشر كيلات فى رفعة واحدة ..
وكان والده ينظر إلى قوته فى فخر وزهو ..
وكان تخزين المحصول يستغرق خمسة أو ستة أيام ..
وكان عمار فى هذه الأيام لاينام فى الليل أبدا .. لأن سرقة كيلة من القمح كانت تأتى للفلاح بثوب من الدمور ..
وكانت زراعة الذرة ملاصقة لنا .. ومن السهل أن يتسرب منها اللص إلى الجرن ثم يعود ويختفى فيها ..
وكان الرجل مرهوبا بطبعه .. ولم يكن هناك إنسان يجرؤ على الاقتراب منه .. ولكن الشيطان لايفتأ يوسوس فى صدور الناس .. ولذلك تنبغى اليقظة دائما ..
وكنا بعد أن نكيل الغلة فى آخر النهار .. نسوى « الهدار » ونعلمه .. حتى إذا سرق منه شىء فى ظلام الليل عرفنا ..
وكنت أنام قريبا من الغلة .. على حرام ومخدة .. وتحت رجلى بطانية .. ولم أكن استعملها إلا لأتقى بها الناموس ..
وكان عمار ينام قريبا منى وحولنا الفلاحون المشتغلون فى الجرن .. وكنت أنام فى معظم الليالى بمجرد أن أضع رأسى على المخدة لانى كنت أطمئن إلى حراسته ..
وذات صباح استيقظت مبكرا على صياح فلاحة قريبا منا .. وسمعتها تقول :
ــ الأولاد .. سرقوا البقرة .. ياعمار .. وكان دليلهم ابن عبد الصبور ..
ورد عليها عمار
ــ ابن عبد الصبور .. لا يأتى بالناس الغريبة إلى هنا .. ولا يسرق .. روحى ابحثى عن السارق ..
ــ هو الذى سرقها .. وباعوها .. وأخذوا الفلوس .. وبيروح بالفلوس عند « الغازية » فى النخيل ..
ــ روحى ياولية .. روحى .. ابحثى عن السارق الحقيقى .. فلا يوجد عندنا من يسرق ..
قال هذا عمار بغضب .. فذهبت المرأة ..
وفى الضحى وكنا جالسين فى الخص مر علينا ابن عبد الصبور .. فصاح فيه عمار ..
ــ انت ياولد .. يا حمدان ..
ــ نعم ...
ــ روح هات .. بقرة فطوم .. كما أخذتها .. وفى الظهر تكون البقرة هنا.. فى الظهر .. وإلا أنت عارف ما سيحدث لك ..
ــ أنا لم آخذ بقرا .. من أحد .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
ــ الأحسن لك ان تأتى بها .. وأنا منتظر ..
ــ أنا لم آخذ البقرة .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
واستمر يصيح هكذا .. ولم يرد عليه عمار ..
وقبل أن ينتصف النهار رأينا البقرة مقبلة وحدها بين الغيطان ..
* * *
وفى صباح يوم من أيام الاثنين بدأنا « ندخل » غلة الجرن الثانى .. وبعد أن انتهى الكيل .. سوينا الغلة الباقية وعلمناها كالعادة .. ولاحظت فى ندى الصباح بعد أن طلع النور ان هدار الغلة .. قد جرح وأخذ منه .. نصف أردب على الاقل .. لم احدث عمار .. بالذى حدث ولكننى لاحظت بعد ان دار دورتين حول أكوام الغلال كعادته .. ان سحنته قد تقلصت .. ولم يحدثنى بشىء .. ولكنه ظل طول النهار ..متجهما على غير عادته .. وكان يقلقه ان يلاحظ الكيال .. والفلاحين الذين يشيلون الزكائب .. فتضيع هيبته فى الجزيرة ويسرى الخبر حتى يصل إلى القرية ..
* * *
وفى الليل .. لما جلسنا على الجرن قريبا من الغلة لاحظت انه لايزال مشغولا بما حدث .. وأخذنا نشرب الشاى ونتحدث ولف لنفسه سيجارة .. وأخذ يدخن ..
ومر بنا فى الطريق الزراعى ثلاثة عساكر على الخيل .. وكانوا يسرعون ..
فسألت عمار ..
ــ هل حدث شىء فى الجزيرة ..؟
ــ ابن عبد الموجود .. ضربه أحد الصيادين بالنار ..
ــ وقتل ..؟
ــ لا .. جرح .. فقط ..
ــ ومن المعتدى ..؟
ــ الفلاح .. طبعا .. إن الصيادين مساكين يسعون لرزقهم .. ويتعرضون فى الليل .. للأمواج والبرد .. والرياح الهوج .. ولكن الفلاح لايرحمهم .. عندما يراهم يجرون الشباك على الشاطىء .. يريد أن ينتزع منهم رزقهم بالقوة فى لحظة .. الرزق الذى سعوا له طول الليل .. وهنا يحدث الصراع ..
ــ وهل هم هنا مسلحون دائما ..
ــ أبدا .. ان الفلاحين .. هم الذين علموهم هذا أخيرا ..
ــ إن الذى بيده السلاح .. من السهل عليه أن يطلق النار .. وأن يقتل ..
ــ وهذا ما يحدث فعلا .. مع الأسف يابنى ..
ــ وهل تأسف على القتل يا عم عمار ..؟
ــ بالطبع يا بنى ..
ــ ما أكثر الذين قتلتهم .. فى حياتك ..
ــ أنا .. من الذى حدثك بهذا يا بنى ..
ــ الفلاحون ..
ــ أنهم كاذبون .. وينسجون الحكايات من الأوهام ..
ــ ألم تقتل أحدا .. وأنت رجل الليل ..
ــ أبدا .. يا فتحى افندى .. ابدا .. أيخلق اللّه الإنسان لنقتله .. إن هذا لا يمكن أن يحدث .. ان اللّه الذى خلقه وهو الذى يميته ..
ــ وفى الليل .. ألم تضطر إلى اطلاق النار ..
ــ كثيرا ... ولكن للإرهاب فقط .. الذين كنا نسرقهم .. كنا نرهبهم فقط .. كنا نسرق المواشى .. وكنا نسطو على السرايات .. ونسرق الخزن .. كان الأغنياء يودعون كل نقودهم فى بيوتهم .. لم يكونوا يضعونها فى البنوك كما نرى الآن .. ومرة دخلنا على رجل غنى فى حجرة نومه .. وكان مفتاح الخزانة تحت المخدة .. فقبض عليه فى يده واستمات فيه .. وكنت أستطيع أن أقتله .. وأن آخذ منه المفتاح .. ولكننى أمرت الرجال بتركه .. وخرجنا دون سرقة .. لأنى أعرف أن القتل جريمة لا تغتفر ..
ــ ولكن فى حياتك الطويلة .. ألم يحدث مرة أن أطلقت النار وقتلت شخصا .. ولو عن غير قصد ..
ــ أبدا .. يافتحى أفندى .. إن البندقية فى يدى .. لأحمى بها نفسى ..
ولكن حدث لى حادث رهيب منذ سنوات .. وسأحدثك عنه .. وما حدثت به إنسانا سواك ..
وتجهم وجهه قليلا ..
وقال وهو يرسل الدخان الأزرق فيتلوى فوق رأسينا فى الريح الساكن ..
ــ حدث فى سنة 1919 .. وكانت الثورة قد انطلقت فى كل مكان مرة واحدة من الإسكندرية إلى أسوان .. كنا نحارب الانجليز عند قرية الوليدية .. وكنا وراء الأحجار .. التى كانت معدة لتدعيم خزان أسيوط وأخذنا نصليهم بالنار كانوا على مبعدة أمتار منا فقط وكانت حالتهم فى غاية السوء ..
كنا قد حاصرناهم عند الخزان وفى المدرسة الثانوية .. سبعة أيام كاملة وعلى وشك أن نبيدهم جميعا وقد قطعنا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد ومن كل طريق وفعلنا كل ما يفعله القائد المدرب فى الحرب مع أنه لم تكن لنا قيادة على الإطلاق .. ولكنا كنا نحارب بفراسة الرجال الشجعان ..
وكان رفيقى فى الموقع زيدان وكان أحسن رجل فى ضرب النار .. وكان من البراعة فى التصويب بحيث أذهل كل من حولنا ..
وفى أثناء انتصارنا الباهر .. ظهرت طائرة للأعداء فوق رءوسنا كانت قادمة من القاهرة .. ولم نكن نعرف شيئا عن الطائرات .. وأخذت تلقى القنابل فتغير الموقف .. وذعر الفلاحون وطاروا على وجوههم ...
وجريت وأمامى زيدان على الرمال بين النخيل .. ثم غاب عنى ولم أكن أعرف أين ذهب .. ثم بصرت به وأنا أمشى .. مكوما تحت شجرة .. وكانت القنبلة قد مزقت جسمه ولكن بقيت فيه الروح ..
وحملته وسرت به طويلا فى الظلام .. والدم يلطخ وجهى وثيابى .. وكان الدم قد أعمى عينيه .. ثم وجدته يتعذب .. ووجدت نفسى أكثر عذابا منه ولا أدرى من أين جاءنى الخاطر الرهيب لأتخلص منه .. فقد وجدت ما بقى من جسمه مسخا مشوها .. لا يجعل منه رجلا على الإطلاق .. وقدرت انه سيعيش ساعات .. ربما بقى إلى الصباح .. وربما يموت قبل ذلك .. ولكنه سيتعذب عذابا كبيرا فى أثناء هذه المدة .. عذابا لا يحتمله إنسان .. فلماذا لا أريحه من هذا العذاب .. مادام أنه سيموت حتما .. ولماذا أجعل أهله يرونه على هذه الصورة البشعة .. وألقيته .. على الأرض .. وبعدت عنه ثم استدرت إليه وأطلقت عليه طلقه واحدة وأنا أغلق عينى .. وسرت فى طريقى ..
وبعد أن تركته كنت أتصور أننى استرحت منه ومن العذاب إلى الأبد .. ولكن لما رجعت إلى البيت .. ووضعت رأسى على الحرام نهشت رأسى الافكار المدمرة .. وأدركت أن العذاب بدأ من هذه الساعة ..
وقلت لماذا قتلت زيدان .. وهو شاب فى ريعان شبابه ربما أمده الشباب بالقوة وعاش .. من يدرى .. لماذا أنهيت حياته فى غير الساعة التى أرادها اللّه ... أيخلقه اللّه لنميته نحن ..
وظللت فى عذاب مدمر .. ثلاثة أسابيع كاملة وكان وجهى أسود .. وسحنتى سحنة مجنون .. ولم يعرف أحد من أهلى ... ما جرى .. لم يعرف أحد سرى .. وكنت قلقا ملتاعا .. ووجدت أخيرا ما يشغلنى عن هذا العذاب .. خرجت فى الليل لأسطو ... على العزب .. واستغرقنى هذا العمل ووجدت اسمى يدوى كرجل رهيب .. ولولا أن جدك عبد المنعم أعادنى إلى صوابى .. وجعلنى حارسا على أجرانكم .. لعشت فى الضلال إلى الموت ..
صمت عمار .. وأخذ يدخن .. وبدت خيوط من الظلال الكثيفة تزحف علينا ..
وقد عجبت لما فى النفوس البشرية من أسرار ...
وغلبنى النعاس فنمت ..
* * *
وفى الصباح .. رأيت أن الغلة .. قد سرقت أيضا ورأيت فى عينى عمار أنه يعرف أن الغلة جرحت .. فصمت وتألمت لحاله .. وأنا أرى الرجل يكتم غيظا لا حد له ..
* * *
وسهرت ذات ليلة .. وأنا أتناوم .. لأحاول أن أكتشف السارق .. ثم غلبنى النعاس .. ولما فتحت عينى .. وجدت .. عمار .. يصوب بندقيته .. ولمحت شيئا فى الظلام يجرى سريعا ودخل الذرة .. فأطلق وراءه عمار طلقة واحدة ..
ولما أسرعنا إلى هناك لنعرف السارق .. ذهلنا لما أصبحنا على قيد خطوة منه .. فقد كان خليفة ابنه .. وكان ملقى على وجهه وبجانبه الزكيبة وقد سالت منها حبات من القمح على الأرض .. وكان قد أصيب فى مقتل ..
وظل عمار فى مكانه مفتوح العينين .. وقد تجسمت ملامحه من هول الموقف ووجوه الفلاحين أشد ذهولا منه ... وما نطق واحد منا بكلمة .. أصبنا جميعا بالخرس الحقيقى ..
وأحسست بشىء ثقيل يجذبنى ويشدنى إلى الأرض .. ولكننى تماسكت ووقفت ساهما .. وقد تغشت عيناى ..
وسقط رأس عمار .. ثم أخذ يحملق فى بنظرة كئيبة .. وقد خرس لسانه .. ولا أدرى هل مرت عليه السنون فى هذه اللحظة .. وتذكر الرجل الذى صرعه هناك بين النخيل .. فقد بدا فى عينيه شعاع الفزع الذى يعتصر الإنسان حين يواجه ما قدر له .. ثم ما لبث الشعاع أن انطفأ .. وعاد يدير فينا عينين مظلمتين ..
وكان ضوء القمر قد بدأ ينتشر خلفنا هناك .. فى شاطىء النهر فلمحت امرأة أعرفها .. لمحت ناعسة على رأسها صرة .. وأمامها دابة تحمل زكيبة كبيرة وغلامان صغيران ... وخلف هذا ثلاث عنزات .. وكانوا قد تركوا النخيل وأخذوا يسرعون فى طريق المعدية ..
ونظرت إليها لحظات ثم رددت بصرى إلى القتيل الراقد هناك ..
وعجبت لتصاريف القدر وما يعده للإنسان ... فى أشد لحظات أمنه ..
وكان عمار لم يغير مكانه .. ولكن كان قد ترك البندقية من يده .. ونظر شاردا إلى هناك فلا أدرى هل رآها وهى تمضى وراء قطيعها ام لا .. ولكنه على اى حال لم يتحرك .. ظل فى مكانه ينظر الينا بعينين تائهتين ..
وكانت البندقية لاتزال ملقاة بجانبه .. وما أمسك بها بعد ذلك ابدا .. فقد كانت هذه هى الطلقة الاخيرة ..
=================================
نشرت فى صحيفة المساء 2/10/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من الصعيد " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================
الأحد، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٦
الطلقة الأخيرة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق