الأحد، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٦

الوسيط ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى



الوســــــيط
قصة محمود البدوى


مصر هبة النيل .. ولكن سكان قرية بنى تمام .. كانوا لايحبون النيل .. وينتابهم الذعر فى أيام الفيضان فعندما يرتفع منسوب الماء .. يأكل من أرضهم وعندما يهبط فى أيام التحاريق .. تتشقق الأرض وتنهار .

ظل النيل على توالى السنين يزحف عليهم حتى أكل الوادى الذى يزرعونه تحت البلد .. ولاصق جدار القرية ونخيلها .. لاصق المبانى .. المبنية من الطين .. أصبح منها على قيد سبع قصبات ..!!

واستيقظ الأهالى فزعين .. وتجمعوا فى الدرب وفى سقيفة الشـيخ عبد الكريم .. وذهبوا إلى دوار العمدة فقال لهم :
ـ اجمـعوا .. قرشـين للمفتش .. ليـس من طريقة غير هذه .

ولكنهم كانوا لايصدقونه .. فكم جمعوا من نقود وأكلها فى بطنه وكذب عليهم وكان كل من يجىء إلى القرية من رجال الحكومة .. يحدثونه عن النيل الذى يأكلهم .. معاون الزراعة .. وضابط النقطة .. وعسكرى الداورية .. وخفير الأحوال .. الذاهب إلى المركز .

كانوا يحدثون كل من يجدونه حتى طواف البريد .. وكتبوا عرائض .. واشتكوا لكل الجهات .. ولكن النيل ظل يزحف عليهم كالغول ولم يوقفه أحد .

واتصلوا بنائبهم عرفان وكان يقيم فى مصر بصفة مستمرة .. ولا يشاهدونه إلا فى موسم الانتخابات .

كتبوا له ولكنه لم يرد عليهم ولم يفعل شيئا .. وكانوا يتساءلون لماذا يهملون هكذا .. وتتركهم الحكومة للبحر .. وأخيرا شرح لهم الشيخ سعفان الموقف وكان يطالع الصحف اليومية ويكتب العرائض والشكاوى للمظلومين .

ـ الحكومة تهمها السكة الحديد .. وأنتم بعيد .. فى البر الشرقى ..

ومع كل هذا الظلام .. لم ييأس الفلاحون من المنقذ .. فقد اعتادوا على الصبر .. رغم أن كل ما يحيط بهم يخدعهم .. الأرض التى يزرعونها تخدعهم .. والنيل يخدعهم .. والطبيعة نفسها تخدعهم .. ولكنهم يصمدون .. لم يصبهم اليأس أبدا .. وظلوا يتشاورون فيما يفعلون .. وأخيرا لاح لهم المنقذ .. فكروا فى عبد المجيد أفندى المأمور .. مأمور " الششتى " الذى فصل من وظيفته وجاء إلى قريته ليعيش بينهم .

كان سكيرا وبدد كل أفدنته وقراريطه .. ولكنه كف عن الخمر الآن وتاب .. وهو الأفندى الوحيد الذى وجدوه أمامهم .. والمتنور فيهم .. وحدثوه عن الموضوع فقال لهم أن هذه المسألة لاتحل فى المركز ولا فى المديرية .. وانما تحل فى " مصر " وسيرون مراكب الحجر .. والرأس قائمة بعد شهر واحد .. وطلب مائة جنيه .. للمصاريف وليعطى منها الذين سيسهلون له الأمور .

وجمعوا له المبلغ .. وودعوه على المحطة .

وفى كل صباح كانوا ينظرون ناحية النيل .. ليروا الحجر .. والمراكب .. التى تحمله أو العمال يحملون الفئوس .. أو المهندس يخطط فى الأرض .. أو المفتش يعاين المكان .. ولكنهم كانوا لايشاهدون أحدا .. ولم يكتب لهم عبد المجيد أفندى منذ سافر ولم يسمعوا عن خبره .. كان كأنه مات بالسكتة فى الطريق فأدركهم ظلام من اليأس ولم يكونوا يتصورون أن الرجل يخدعهم أو يغشهم إلى هذا الحد .

ولكن فى هذا الظلام .. ظهر النور فجأة .. جاء أحد الفلاحين إلى دكان حسين الدخاخنى وقص على الأهالى أنه شاهد ثلاثة من الأفندية .. ينزلون من " الأتوموبيل " وعاينوا شرق البلد .. وحددوا مكان الرأس ودقوا الحديد وانتشرت هذه القصة الخيالية فى القرية .. وتندت عيون الفلاحين من الفرح .. دعوا لعبد المجيد أفندى بطول العمر .

ولكن عبد المجيد أفندى لم يكن يستحق شيئا من دعاء هؤلاء البسطاء المساكين فمنذ ركب القطار لم يفكر فى مفتش الرى ولا فى مقابلة النائب عرفان .. ولا فى أى شىء يتعلق بالموضوع .. ووجد فى جيبه المال فحن إلى ماضيه .. وانجذب .. جذبته القاهرة بأنوارها الساطعة وملاهيها وحاناتها فصرف كل ما معه من نقود .

وخشى من الجوع والتشرد فى هذه المدينة الكبيرة التى لاترحم فلجأ إلى " بلدياته " فى حى بولاق .. فاقترض منهم أجر السكة الحديد وعاد فى أول قطار .

رجع إلى القرية بعد غيبة سبعين يوما .. وركب السيارة العمومية الذاهبة إلى المركز .. وعند تقاطع المرور .. نزل .. وسار على الجسر إلى القرية .. وقابل فى الطريق بعض الفلاحين الذاهبين إلى الحقول .. ولكن أحدا منهم لم يكلمه .. لم يعرفوه .. فقد تغير شكله .. واتسخت ملابسه وتمزقت .. وطال شعر ذقنه .. وتدلت شواربه .. وغدا وجهه أسود كالفحم .

وعندما لمح قريته من بعيد تسمرت قدماه وشعر برجفة ، فقد انهار الجرف الشرقى كله .. وطغت المياه على القرية .. وسقطت بيوت الحى الشرقى فى الماء وكان أول بيت سقط بيته هو .. رأى نخلته التى كانت تتوسط الدار .. تسبح فى اللج ..!!

وعندما وصل إلى بستان نعمان .. سقط قلبه .. فقد رأى جنازة تتجه إلى المقبرة وخيل إليه أنه يسمع صراخ زوجته وعويلها .. وبعد خطوات تأكد من وجودها .. ورآها تلبس السواد وتندب ثكلها .

وتخشب جسمه على الجسر .. ومر به سقاء القرية .. فعرفه .. واقترب منه وهو يقول متأثرا :

ـ البقية .. فى حياتك يا عبد المجيد أفندى .. وشد حيلك .

ونظر إلى السقاء مذهولا وهو لايفهم شيئا .

ثم سقط بجانب الجسر .. وأخذ يهيل على وجهه التراب .
===============================
نشرت
القصة فى صحيفة الشعب المصرية فى 17/7/1956 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص " مساء الخميس " لمحمود البدوى عام 1966
================================



ليست هناك تعليقات: