الأحد، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٦

الغول ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى



قصة من نهر النيل
الغـــول
بقلم محمود البدوى


كان عبد المحسن مهران وهو فلاح عجوز من قرية الرحمانية بالصعيد يمتلك قطعة أرض صغيرة على شط النيل لاتزيد مساحتها على النصف فدان ..

وكان من سوء حظه أنها ملاصقة لأرض الشيخ ماهر ومتداخلة فيها .. فما زال هذا يجنبه حتى وضعه فى أضعف تربة ..

فلما زحف النيل على الأرض يأكل منها .. أدعى أن أرض الفلاح الفقير هى المأكولة .. وأرضه لم يمسها سوء .. فصرخ المسكين ولجأ إلى السلطات لترد له قطعته قبل ضم المحصول ..

وعندما تحركت الشكوى من المركز كان النيل يملأ الضفتين والتيار شديدا ..

وركب معاون الادارة ومعه شيخ البلد والدلال والخفير المعدية لمعاينة الأرض .. وكانت على العدوة الأخرى من النيل فجرفهم التيار بعيدا حتى أشرفوا على الغرق وأخيرا استقرت المعدية تحت قرية من القرى .. فى ساعة العصر .. بعد عراك مع الماء استمر سبع ساعات .. وطلب شيخ البلد ركوبتين من القرية التى نزلوا تحتها ليصلوا إلى العزبة ..

وركب المعاون وشيخ البلد .. وسار الدلال والخفير خلفهما بين المزارع وكانت زراعة الأذرة والقطن على الجانبين .. والشمس تشوى الوجوه .. والأرض الحامية تتنفس فى وجوههم ..

وأطلق شيخ البلد الشمسية واكتفى المعاون بأن وضع منديلا تحت الطربوش ..

وكانا قد أبعدا بالدابتين عن النهر .. وسارا فى طريق ضيق بين الحقول .. وكان الطريق موحلا .. وأرجل الدابتين تغوص فى الوحل .. وكان المعاون يذهب لأول مرة إلى هذه المنطقة .. وساءه رداءة المواصلات وسوء الطرق .. وشدة الحرارة رغم الماء المحيط ونزول الشمس عن السمت .. وظهر أثر ذلك على وجهه .. وكان يكره ركوب الحمير .. وزاده هذا غما ..

وكانت زراعة الأذرة عالية .. والكيزان مستوية .. وقد مالت إلى الأرض ..

وكان الحشيش المتطفل .. يغطى التربة .. والقطن قد تفتح نواره .. وظهرت لوزه تنشق عن مثل الحرير الأبيض . ولكن الحرارة وناموس الذرة .. والحشرات الطائرة .. كانت تشوه كل هذا الجمال فى عين المعاون .. وكان شيخ البلد قد اعتاد على مثل هذا وأكثر منه ..

وكان الفلاحون فى الحقول .. يرفعون رؤوسهم عن الأرض لحظات ويحدقون فى الراكبين وبعد أن يشبعوا فضولهم يعودون إلى عملهم ..

***

وانحدرت الدابتان .. فجأة فى طريق نازل .. ولفحهما هواء مرطوب .. وكان النز والطحلب والحشائش الطفيلية تغطى الأرض .. وأسراب من الطيور تحط .. ثم تحلق فى غير نظام .. ثم صعدا على جسر صغير وتكشفت المزارع أمامهما .. فقد أخذ الفلاحون يحصـدون الأذرة .. ويكومون " القناديل " فى جانب من الحقل ..

وبدت جذوع العيدان .. بيضاء تعلوها السمرة .. وكان الجاموس مربوطا والجمال باركة تجتر .. وبعضها يتحرك حذاء الساحل محملا " بأطنان " البوص وكانت الأبقار تدور على النوارج .

وسمع المعاون .. صياح الفلاحين .. وزعاقهم .. فى كل مرحلة كان يقطعها بالدابة ..

وكانت أشجار السنط .. والنبق كثيرة فى الأرض العالية كأنها محطات للعابرين .. أما النخيل فكان قليلا .. فى الأرض المزروعـة وكان يبدو من بعيد وهو يخيم على القرى والعزب .

وكان الراكبان يمشيان على مهل .. ويراعيان الدلال والخفير وراءهما .. وأن الطريق ردىء .. وربما انقلبا فى اللجة أو انزلقا فى الوحل .. ولم يكن المعاون قد اعتاد على ركوب الحمير .. وكان منذ ركب يجتر همومه .. وحده .. فلما لاحظ عليه شيخ البلد التعب سـأله :
ـ تحب أن تستريح قليلا .. يا حضرة المعاون ..؟
ـ أبدا .. هو باقى كتير يا شيخ تبارك ..؟
ـ حوالى نصف ساعة ..
ـ أنا عارف النصف .. هذه ستصبح ساعة ..
ـ لا .. قربنا..

وأراد المعاون أن يتبسط مع الشيخ :
ـ عندك أولاد فى المدارس ..؟
ـ عندى .. اثنان .. واحد فى ابتدائى والثانى فى ثانوى .. والذى فى ابتدائى ماشى .. أما الذى فى ثانوى فتاعبنى ..
ـ ماله ..؟
ـ سقط .. ثلاث مرات فى سنة واحدة ..
ـ هاته .. يساعدك فى الزراعة ..
ـ لاينفع .. سيصبح كالشيخ عبد المعطى تكون وظيفته أن يكتب عرائض وشكاوى فى المأمور .. اتفقت مع عمه على أن يأخذه ويشغله فى المالح !!
ـ هذا أحسن .. والعمل سيستهلك طاقته العصبية ويبعده عن الشر ..
ـ لقد وقع الشر فعلا .. انه الآن يشرب الجوزة .. وينام فى أحضان " الغوازى " ويذهب مع أولاد ماهر إلى المواخير .. لقد أفسدوه .. يسرقون المحصول من أبيهم العجوز البخيل .. ويذهبون إلى المواخير .. وفى كل لحظة يتمنون موت أبيهم .. ولو طال أجله سيخنقونه بأيديهم !!
ـ ولماذا لاتبعده عنهم ..؟
ـ ماذا أفعل .. لقد فعلت كل ما فى وسعى .. هل أترك عملى وأعيش معه فى البندر انها مشكلة ..

***

وركبا سكة تشرف على النهر وكانت المياه تتدفق هادرة .. وخيل إلى المعاون .. أنه الطوفان .

فقد بدت صفحة الماء السوداء .. تملأ ما بين الجبلين الشرقى والغربى وغرق كل ما بينهما من قرى .. وكانت المراكب الذاهبة مع التيار طاوية قلوعها وتمضى سريعة .. أما التى كانت ضد التيار .. فقد نشرت قلوعها وكانت تتحرك بمشقة كأنها تدفع أمامها جبلا من الماء .

وكانت الزراعات التى فى الجانب الغربى قد حصدت واستلقت عيدان الذرة على الأرض .. فمر الهواء الرخى .. من جانب النهر .

ورأى عبد اللطيف أفندى فتاة تمشى بجانب الجسر تحمل جرة وكان يشعر بالعطش الشديد فقال :
ـ تعالى يا شاطرة .. أسقينا ..
وفتحت الفتاة فمها فى خوف عندما وقع بصرها على الطربوش ووقفت مكانها .. ولما حادثها الشيخ تبارك .. عرف سر صمتها وقال :
ـ انها خرساء ..

وكانت المياه .. التى فى الجرة عكرة .. فأشار لها الشيخ تبارك إلى وابور كان " يتك " تحت الطريق .. فذهبت سريعا .. وعادت بالمياه الصافية ..

وشعر عبد اللطيف بالراحة بعد أن شرب وروى ظمأه .. وقال بعد أن ذهبت الفتاة :

ـ انها جميلة جدا .. وكل خرساء فى مثل هذا الجمال النادر .. الطبيعة تعوضهن ..
ـ كان عند الشيخ ماهر .. خرساء أجمل منها .. ثم غرقت .. فى نيل مثل هذا ..
ـ كل الفلاحات يعرفن السباحة ..
ـ يقولون أنه أغرقها ..

وكان الشيخ تبارك يدخن .. والدابتان أرختا رأسيهما وظهر ظل العيدان الطويلة على الأرض .

وكانت الشمس .. تخرج ما فى جوفها من حرارة لتستقبل الظل ..

وسأل عبد اللطيف أفندى يستوضح المسألة :
ـ ولماذا يفعل هذا ..؟
ـ تزوج الشيخ ماهر .. أربع مرات وماتت زوجاته جميعا .. وكان يرث فى كل مرة ..

ولما أراد أن يتزوج للمرة الخامسة وهو فى سن السبعين خشى أولاده أن يقاسمهم وارث جديد فى الميراث واجتمعوا عليه وحاصروه وهددوه بالقتل ان تزوج .. وكان الرجل قوى البأس .. فلم يعبأ بتهديدهم ولكن الفتاة خشيت على نفسها من شر أولاده .. فلم تقبل الزواج منه بعد ما حدث من عراك .. وبحث عن واحدة أخرى فاشترطت عليه أن يسكن معها فى القاهرة .. ولكن أولاده حاصروه وأطلقوا عليه الرصاص فلم يبرح مكانه ..

وكانت عنده فتاة خرساء تملأ له أبريق الوضوء .. تربت فى بيته وهى صغيرة حتى أدركت وغدت أنثى شهية .. وذهبت مرة تحمل الجرة .. إلى البئر .. فلاحظ عليها الفلاحات كبر بطنها .. فذعرن ..

ووضعت واحدة منهن يدها على بطن الفتاة وسألتها بالاشارة :
ـ من الذى فعل هذا يا نبوية ..؟
ـ سى .. سى .. سيدى .. ماهر ..
نطقت الفتاة .. باسم سيدها .. وما نطقت فى حياتها ..
وضحكت النسوة .. ثم وجمن .. وأصابهن الذعر .. وشاع الخبر فى القرية ..

وعندما ارتفع النيل .. وزمجر .. كما تراه .. الآن .. اختفت الفتاة عن الأنظار ولم يرها أحد بعد ذلك أبدا .. ويقولون أن خدم ماهر كمموها ووضعوها .. فى جوال .. أثفلوه .. بالحجارة ..
ـ وأهلها ..؟
ـ ليس للفتاة أهل .. انها يتيمة .. وتربت فى بيت هذا الغنى كجارية من جواريه ..
ـ وأهل القرية ..؟

ـ ليس فى يدهم دليل .. وأنت تعرف الفلاحين .. أخرسهم ظلم القرون .. وكان فى مدرسة القرية الأولية مدرس يدعى الشيخ رجب .. وعلم بخبر الفتاة فصعد المنبر بعد صلاة الجمعة وقال وهو منفعل :

ـ أيها الناس .. ان صلاتكم باطلة وذاهبة إلى الشيطان .. أين ذهبت نبوية ..؟ ان دمها فى أعناقكم إلى يوم القيامة .. وعندئذ ستحشرون فى نار جهنم ..

وكان الفلاحون يرتعشون من الخوف .. ولكن إذا نظروا إلى وجه ماهر وجبروته انكمشوا .. ووصل الخبر إلى ماهر .. وفى يوم السبت التالى .. لم يدخل الشيخ رجب المدرسة وعلم الفلاحون أن مدير التعليم نقله إلى المصحة .!

وقال عبد اللطيف .. مبتسما :
ـ وكيف نخرج .. أرض .. الفلاح المسكين من جوف هذا الرجل إذن .. وماذا يكون مصيرنا ..؟
ـ إننا ننهى مسألة إدارية .. لأجل زراعة هذا العام .. وأمامهما المساحة والقضاء لتفصل فى الأرض ..

وكان قد اقتربا من العزبة وبدا أمامهما جسر طويل .. معرش بقطع الأخشاب .. والبوص .. ومياه النهر تنطحه وكان بيـن المـاء وبينـه مقدار أربعة قراريط .. وسأل المعاون :
ـ من الذى عمل هذا الجسر ..؟
ـ الشيخ ماهر .. انه يحمى زراعة مئات من الأفدنة زرعها .. قطنا .. وخضارا .. ويحمى عزبته كلها ..

وكانا قد اقتربا من البيوت .. وبدت الطيور تأكل الحب .. والحيوانات ترعى الحشائش .. والبط يقفز إلى الماء وكان الوابور معطلا .. ولكن المياه لاتزال فى المجارى .

وشاهد المعاون جديا صغيرا يتوثب .. ونعجة نائمة وناقـة تجتر .. وقد خلـع عنها الهودج .. وبدا أثره فى ظهرها ..

وعندما اقترب الراكبان أقبل نحوهما الفلاحون .. وتناول خفير العزبة الركوبتين وقيدهما فى جانب ..

وكان الخفير يود أن يمشى أمام حضرة المعاون إلى مضيفة شيخ العزبة .. ولكن المعاون رأى أن يبقى بجانب الوابور فى الهواء .. الطلق الذى يطرد الناموس .. وكان الظل قد فرش ..

وجاءوا لهما بدكة فرشوها بحرام .. ووضعوا عليها مخدتين فى الظهر .. وجلس المعاون ينتظر الدلال .. وجاء الدلال وقدم لهم شيخ العزبة طعاما خفيفا لأنهم كانوا فى شدة الجوع .. ثم ذهب الدلال ومعه شيخ البلد .. وشيخ العزبة .. والفلاح المشتكى .. ووكيل ماهر .. إلى موقع الأرض .. لقياسها ..

وجلس المعاون فى مكانه .. ووقف على مبعدة منه بعض الفلاحين .. ثم جلسوا على قرافيصهم فى الظل .. يتحدثون وفهم من كلامهم أن ماهر مريض ولولا مرضه الشديد لجاء وحضر المقاس ومسك بالقصبة ..!

وحمل له الخفير الشاى .. وكوبا من الماء المروق .. وكانت الكباية الصغيرة التى صب فيها الشاى غير نظيفة فتأفف المعاون وصب الشاى على الأرض فى غفلة من الحاضرين ..

وحمل الخفير ما بقى من الشاى إلى الفلاحين .. وسمع المعاون وهو جالس .. امرأة تزعق .. وتسب .. وتشكى لربها .. وعلم أنها زوجة الفلاح صاحب الشكوى وكان المعاون يود أن تنتهى المسألة قبل الغروب .. ليستطيع أن يركب الركوبة إلى البندر .. وفى الصباح يذهب بالسيارة إلى المركز لأنه لن يركب المعدية مرة أخرى فى هذا الطوفان ..

وعادت امرأة عبد المحسن تزعق من جديد ..
ـ ربنا .. المنتقم .. الجبار .. من تلاثين سنة مغلبنا .. ودا عبد الموجود الجهادية وطلع صابر الجسر .. وأخرتها حياخد أرضنا .. مش مكفياه الربعميت فدان ..
ـ يا وليه أسكتى ..
ـ أنا مش خايفه .. الحاكم أهو قاعد .. والخوف موتنا .. مين اللى حط الخرسة فى الشوال .. وخيط عليها .. مين ..
ـ يا وليه اسكتى ..

ونهرها .. خفير الوابور .. وطردها من المكان .. وبدت المرأة فى سوادها .. يابسة كعود الذرة الجاف .. ورمقت المعاون بنظرة فاحصة وهى تنسحب وترد طرحتها على وجهها المعروق ..

وكان المعاون يرد بصره عن البيوت الصغيرة .. إلى النهر الطامى الذى أمامه .. والذى يرد موجه الجسر .. وبدت المراكب أمامه من بعيد كأسراب الطير .. وكان هدير النهر شديدا .. وأخذت اللجة تتحرك كلها وتنطح الجسر .

وتلفت المعاون على زعاق وجرى الفلاحون إلى ناحية المجراة وكانت المياه قد نفدت منها .. وتدفقت على زراعة لم يتم حصدها .. وجرى الفلاحون بالفئوس .. والعلايق .. سريعا .. وسدوا الثغرة .. ولكن المياه اقتربت من البيوت .. وتسربت فى الشقوق ..

ورأى المعاون امرأة تخرج من خلف أكوام الحطب والبوص .. تحمل صغيرا .. وكان وجهه أزرق .. وعلم أن عقربا لدغته .. وطوت المرأة الصغير فى حرام وهى تسأل عن الحلاق ليفصده .. وأمرها الأهالى أن تدخل به الكوخ لأن الهواء يؤذيه .. والغلام بين حى وميت .. وتأثر المعاون من منظر الغلام .. ووجد نفسه بعد قليل ينهض .. ويتجه إلى كوخ الفلاح ..

وقال للأم :
ـ يا ولية .. نظفى الواغش الذى حواليك .. لأنه يأتى بالعقارب ..
ـ حاضر ..
ـ الصبح لازم تشيلى هذا كله ..
ـ حاضر ..
ـ أين أبوه ..؟
ـ فى الغيط .. بيفوس دره ..

ونظر إلى الغلام .. فوجده يرتعش ووجهه أزرق .. ويده ملقاة بجانبه .. كأنها ليست من جسمه .. وكان الهباب فى سقف الكوخ .. والصماد فى الجدار .. والملابس القذرة معلقة فى جريدة منكوتة فى الحائط .. وكان المنفذ الوحيد للقاعة .. هو طاقة صغيرة لاتستطيع أن تطل منها رأس انسان ..

ولاحظت المرأة عين المعاون .. وهى تفحص كل شىء فى القاعة .. وبدت مستسلمة .. وقال وهو يرد بصره إلى الغلام :
ـ لاتعطه شيئا يأكله .. اطلاقا .. وسآخذه معى إلى الاسعاف فى البندر ..
ـ ربنا يوتق حزامك .. مات أخوه الصغير .. من لدغة .. كهذه ..

وكان صوت المرأة باكيا ..
ـ ولكن هذا لن يموت .. اطمئنى ..
ـ ربنا ينصرك ..

وخرج المعاون من الكوخ وهو يشعر بكآبة تضغط على قلبه وتعصره ..

وعادت إلى رأسه صورة زوجته وأولاده وطفله الصغير سمير الذى يحبـو فى البيـت .. واشـتاق لأن يضمه إلى صدره ..

وعندما عاد إلى الدكة .. كان الدلال قد ظهر بالقصبة فى أول الطريق .. والشمس قد سقطت فى النهر .. وسر المعاون لأن المهمة انتهت قبل الليل ..

ورأى الفلاحين يخرجون من المزارع ويسوقون المواشى أمامهم .. ظهرت الأبقار والثيران الضخمة .. والجاموس .. وكان الجميع يتحركون ببطء .. وشاهد جاموسة ضخمة تجرى على الجسر الذى يحجز المياه .. وفلاح يدفعها عنه بالعصا .. ثم انطلقت بأربع بين المزارع ..

واقتـرب الدلال .. وسمـع المـعاون شيخ البلد يقول للخفير :
ـ روح هات .. حصان الشيخ عبد الكريم لحضرة المعاون .. لأنه تعب من الركوبة ..

وسأله المعاون :
ـ خلصتم ..؟
ـ أيوه الحمد لله وريحنا عبد المحسن .. حسبنا عليه قيراط واحد وقع بحر .. والباقى على الشيخ ماهر ..

وجلسوا يشربون الشاى وينتظرون الركائب ..
وأخذ الظلام يزحف ببطء .. وذاب كل شىء فى الغسق ..

***

وسمعوا شيئا .. ضاع فى صوت الموج .. ثم خيم السكون .. وتطلعت أعينهم جميعا إلى الجسر .. ثم علا الصراخ .. وسمعوا هدير الماء المتدفق .. فجروا إلى ناحيته جميعا وحتى المعاون وثب من مكانه .. ووقف يتطلع ..

وكانت المياه قد نفدت من الجسر وساعدت رجل الجاموسة التى جمحت منذ لحظات على فتح ثغرة .. ولم يلاحظها أحد .. وكان النيل يزيد فى كل ساعة .. وضعف السد فانهار جزء منه وتدفقت المياه .. تجرف أمامها كل شىء ..

وسبح التبن .. والغلال .. والطيور .. وأطنان البوص .. وظهر الرجال كالمردة على الجسر يحملون التراب .. وعروق الخشب .. ويحاولون بأجسامهم .. سد الثغرة .. ثم وجدوا أنه لاجدوى من عمل شىء .. وأن الغول يزحف عليهم بكل قوته وكل جبروته ..

فنجوا بأرواحهم .. ثم سمعوا صوت رجل يهدر .. ظهر رجل جديد وكانوا يعرفون صوته جيدا .. فعادوا جميعا إلى العمل .. حتى المتقاعس منهم .. خافوا منه .. وحملوا الطين والتراب .. لسد الماء ..

وكان الشيخ ماهر قد سمع بالخبر .. فطار إلى الجسر رغم أنه يرتعش من الحمى ..

وكان متدثرا وعلى كتفه عباءة .. وقف صامتا وكف عن الصياح .. ولكن مجرد ظهوره حول كل شىء إلى خلية نحل .. وتحول الرجال إلى مردة .. وخلع عباءته واندفع إلى الماء .. كانت حقوله كلها تغرق .. وكان قطنه الأبيض ملطخ بالطين ومواشيه تسبح مع التيار ..

وأدرك الرجال خطورة الحال .. عندما انهار الجزء القوى من السد .. ولكنهم وجدوا ماهر يعمل .. فلم يستطع واحد منهم أن ينسحب .. ظلوا يعملون حتى طواهم الظلام وجرفهم الوحل .. ونسوا ماهر ..

وتفقدوه فلم يجدوه بينهم .. وانسحبوا سريعا .. إلى الأرض العالية .. يسوقون أمامهم مواشيهم ويحملون أطفالهم ونساءهم .. وما يستطيعون حمله من متاعهم ..

ودفع شيخ البلد المعاون إلى سطح الوابور وتجمع الأهالى جميعا .. فى قطعة صغيرة من الأرض لاتصل إليها المياه ..

وفى تلك البقعة السوداء الصغيرة وسط هذا الطوفان .. تجمع الناس كيوم الحشر .. وفى كل ساعة كان يخرج من الماء لاجىء جديد أو تسبح بقرة ..

وصعدوا إليها جميعا .. عدا ماهر ..

وقال الفلاحون .. انه بقى .. وسط الماء يسده بجسمه ويصرخ وقد أصابته لوثة .. وقال بعضهم ان الماء حمله ثم طواه ..

***

وفى ضوء الصباح بدا شراع سفينة يقترب من بناية الوابور وعندما اقتربت السفينة .. طوت الشراع ..

وكان الغلام الملدوغ .. هو أول من نزل فيها وكان قد تصبب عرقا طول الليل وجف عرقه وأحس بالعافية ..

ولكن المعاون رأى أن يحمله معه إلى البندر .. ويأتى له بثوب جديد ..

وعندما تحركت السفينة .. كان الغول قد التهم كل ما حوله من يابسة ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 19/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة قصص " الزلة الأولى " لمحمود البدوى 1959
=================================



ليست هناك تعليقات: