الأحد، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٦

الذئاب الجائعة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى







الذئاب الجائعة
قصة محمود البدوى



خرجنا فى الهزيع الأخير من الليل نزحف نحو المزرعة كالذئاب الجائعة ، ومع أننا كنا مسلحين بأحسن طراز من البنادق ، فقد كنا نتجنب الحراس ونراوغ كالثعالب ، لأننا نعرف قيمة الدم المهدور فى الصعيد ، ولهذا كنا نتخير الأوقات التى تقفل فيها العيون وتغفو .

كان الظلام على أشده فى تلك الليلة ، وكانت وجهتنا مزرعة عثمان بك ، وهو من الأثرياء الأشحاء .. كان جبارا شديد البطش مرهوب الجانب ، وكانت مزرعته متطرفة عن سائر المزارع ، وعليها أشد الحراس ساعدا وأبرعهم رماية .. ولكنا كنا لانخاف أحدا ولا نرهب انسانا ..

كنا من الفتاك الذين يبطشون فى الأرض ، ويعيثون فيها فسادا ، لايردعنا حلم ، ولا يردنا عقل ، ولا يزجرنا زاجر .. كنا نحمل الحقد والضغينة على المجتمع الإنسانى ، الذى طردنا من كنفه ، وشردنا فى الأرض ، وقطع بنا الأسباب ..

وكانت قسوتنا ، وغلظ أكبادنا ، على قدر ما أصابنا فى مستهل حياتنا ، من ضنك العيش وشظفه ، وبلاء الأيام ومحنتها ..

فكانت الفرائص ترتعد لذكرنا ، والقلوب تنخلع لوقع أقدامنا .. وكنا قد ضربنا بكل شىء عرض الأفق ، وعشنا على السرقة والنهب ، نقطع الطريق على الناس ، ونسطو على المزارع فى غلس الليل وفحمته .. وكنا نشعر بعد كل حادثة بلذة المغامرة التى لاحد لها ..

كانت حظائر الماشية فى شرق المزرعة ، وحظائر الغنم ، وهى مبتغانا وقصدنا ، على رأس الطريق المؤدى إلى الحقول ، وكان حول الغنم سياج يبلغ رأس الرجل .. وله بابان أحدهما يؤدى إلى الطريق الصغير الممتد إلى باقى الحظائر ، والآخر يفضى إلى الحقول .

وكنا قد درنا حول المزرعة فى الليالى السابقة ، وعرفنا كل شىء فيها ، ورأينا أن خير ما نفعله لنتقى كلابها ، هو أن نرسل واحدا منا يناوش كلاب مزرعة مجاورة ، فتخرج إليها كلاب المزرعة التى نقصدها .. وفى تلك الساعة نتقدم نحو الحظيرة ، ونخرج بالغنم إلى بطن الوادى ثم نتجه بها فى طريق غير مألوفة إلى الشرق ، وبذلك ننجو بها ..

وتم كل شىء بمنتهى السرعة .. فبعد دقائق قليلة كنا نسوق الغنم .. وتحولنا بها إلى بطن الوادى ، وأخذت عصينا تعمل فوق ظهورها بحمية .. وكنا نسير خلفها وواحد منا فى مقدمتها ، ونحن صامتون ، وصوت الكلاب فى المزرعة المجاورة يقطع علينا هذا السكون العميق ، ثم فتر نباح الكلاب بالتدريج وانقطع صوتها .. وسكن كل شىء ، وخمد كل حس ، وساورنا الاطمئنان المطلق ..

وتنفسنا الصعداء ونحن نجتاز بالغنم الوادى ، وندور بها حول التل ، والسكون يخيم والصمت شديد ، وصوت الأمواج المتكسرة على شاطىء النيل يصل إلى آذاننا عن بعد كأنه زمجرة الوحوش فى الأجم ، ونيران الفلاحين فى المزارع البعيدة تبدو فى غياهب الليل كألسنة الجحيم ..

ودرنا حول الغنم ونحن نحثها على الاسراع ، وقد ساورنا شعور من اقترب من الهدف فاندفع بأقصى قوته ليستريح فى النهاية ..

وسمعنا فجأة صوت رصاصة مرقت فى الجو .. فحبسنا أنفاسنا ، وصوبنا أبصارنا إلى حيث انطلقت الطلقة .. وقد أخذنا أهبتنا للأمر .. وكانت الكلاب قد عادت تنبح ، ثم انقطع نباحها شيئا فشيئا .. فتصورنا الطلقة من أحد الفلاحين الذين يبيتون فى المزارع ، ويطلقون النار على غير هدى ، فى أخريات الليل ليرهبوا اللصوص .. وعاد إلينا الاطمئنان واستأنفنا السير .. وإذا بنا نسمع طلقات متصلة اهتز لها الجو وزأر وهاجت الكلاب وتفزعت كأنها فى شجار مستعر ..

استدرنا وانبطحنا على وجوهنا وتركنا الغنم مع واحد منا يسوقها بأقصى سرعتها .. وأخذ الرصاص يدمدم ويصوب إلى اتجاهنا ..

لقد تقفوا أثرنا وعرفوا طريقنا ولم يكن من القتال بد ..وزحفنا كما تزحف السلاحف إلى مشرف عال بجانب الطريق .. وأخذنا نرد على طلقات الحراس بطلقات أشد منها ..

وانقلب الجو إلى معركة حامية .. واشتدت علينا المطاردة وكثر طلق النار .. وكأنما خرجت إلينا المزارع بجميع حراسها وأحسسنا بدقة موقفنا .. وأدركنا أننا لو بقينا فى مكاننا فنحن هالكون لامحالة ، فتراجعنا إلى مكان آخر .. ورأينا أن نسرح الغنم ليكف عنا الحراس .. وعهد الرفاق إلىّ وإلى زميلى حسان بهذه المهمة .. فأخذنا نغير اتجاه الغنم ونردها على أعقابها .. وبعد دقائق قليلة كنا ندفع الغنم من حيث جاءت والرصاص يصفر فوق رأسينا .. ورميت رفيقى بحصاة .. ونهضنا معا وجرينا بكل ما وسعنا من السرعة .. وسمعت أنة مفزعة وسقط جسم رفيقى على الأرض ، فأسرعت نحوه وحملته .. وبعد لحظات جاء الرفاق .. وحملناه .. وسرنا به مسرعين قبل أن يفضحنا نور الفجر ..

***

انقطع صوت النار وخف نباح الكلاب ثم سكن وخيم السكون العميق .. وبلغنا بصاحبنا التل .. وكان قد فارق الروح فى الطريق بعد أن تألم كثيرا .. ووضعناه فى الزورق ، وأعملنا الأيدى فى المجاديف ، واتجهنا نحو الغرب ، وقد خيم علينا الصمت ..

ما أعجب الحياة !

لقد انتهت حياة رفيق لنا فى مثل خطف البرق ، وما ذرف أحد منا دمعة ! فقد قست قلوبنا وتحجرت مآقينا .. وهل هو القتيل الأول ؟ .. أبدا .. ولن يكون الأخير .. وسيأتى دورنا ما من ذلك بد ..

وتبادلنا المجاديف ، والرفيق الذى كان يضاحكنا فى المساء ويمازحنا قد رقد هناك فى ركن من الزورق ، صامتا أخرس ..لقد كان صمته أبلغ من نطقنا .. ولقد أطبق فمه وهو فى بكائر أيامه وربيع عمره ، وضرب الضربة البكر ، وهو فى أول عهده بالحياة .. قضى .. لأنه كان أكثرنا حماسة .. وأشدنا بطشا ، ولقد انتهت تلك القوة الجبارة فى ساعة قصيرة مفجعة ، وكنا جميعا نتوقع الموت فى كل ليلة نخرج فيها للسرقة إلا هو ، فقد كان الموت أبعد شىء عن ذهنه .. ولعل الشباب والجبروت وقوة الحيوية هى التى جعلته هكذا .. ولكن ما أعجب الأقدار ! لقد اختطفته هو ، وخلفتنا نحن .. إلى حين ! .

وانحنيت على جسمه أتأمل روعة الموت فى ذلك الوجه الناضر .. فإذا بوجهه قد احتقن وتصلب واغبر ، وبرزت عيناه فى رعب ، وسقط فكه الأسفل ، فعل من عانى أشد برحاء الألم .. وأغمضت عينيه ، وقد أذهلنا الموقف المروع عن فعل ذلك من قبل .

وأخرجناه من الزورق وحمله اثنان منا ، وسار الباقون خلفهما فى صمت كئيب .. وبدا الجبل رهيبا موحشا ، شامخا جبارا .. وسيضم جبارا مثله .. أخذنا نتبادل حمله ، وقد ثقل جسمه وتصلب .. وعلى الرغم من أننا ربطنا الجرح ، كان الدم لايزال يتفصد ، وكانت أرجلنا تغوص فى الرمال ، وعرقنا يختلط بدم القتيل ، ويسيل على وجوهنا وثيابنا .. يا لله .. أى حياة يحياها الأشقياء فى القرية .

تطلعنا إلى الأفق الشرقى وقد بدى بياض الفجر يزحف .. وكنا قد قربنا من المقبرة ، وثار الغبار الدقيق فى وجوهنا وملأ خياشيمنا ، وأخذ الصمت الرهيب يطالعنا من كل جانب ، وكنا نتبادل من قبل بضع كلمات ، ولكن ما لاح شبح المقابر عن بعد ، وهى رابضة عند سفح الجبل ، حتى تملكنا شعور من الرهبة ، ومزيج من الخوف والابتئاس .. فتصبب العرق على وجوهنا .. وأصبح كل شىء حولنا كريها بغيضا .. فأحسسنا فى أعماقنا بشعور من أشرف على الهاوية ، ووقف على رأس الجب وعيناه إلى تنين هائل ..!

لقد كان عذابنا لاحد له ، وقلقنا لايصور ، وشعورنا بالبغضاء يفوق كل وصف .. كنا نود لو نلقى بصاحبنا فى اليم ، ونجعله طعمة الأسماك ، أو نطرحه فى العراء ، لتنقض عليه صقور الجو ، وجوارح الطير .. وأسفنا على كل ما تحملناه فى سبيله حتى بلغنا به الجبل ، حيث المقابر ..

لقد أثارت هذه المسافة الطويلة التى حملناه فيها كل ما يمكن أن يحمله إنسان لإنسان من حقد وكراهية .. فلو اعترضنا فى تلك الساعة الرهيبة معترض لمزقناه إربا ..

كنا نسير فى طريق المقبرة ذاهلين مشدوهين ، وكأننا نحمل جبلا على أعناقنا .. كان شقاؤنا مرا وعذابنا غليظا .. وكان الحسك والشوك وشجر الصبار ينبت على جانبى الطريق .. وكنا ندوسه بأقدامنا ونحن لانحس به من فرط الذهول ..

لقد مرت علىّ فى تلك الساعة الرهيبة صور حياتى من الوقت الذى شببت فيه عن الطوق إلى أن أصبحت من الفتاك الآثمين .. وضمنى هؤلاء الرفقاء إلى زمرتهم .. وسرنا جميعا فى طريق الظلام .. هل كنا سنصبح هكذا ونعيش على هذا النحو لو أنيرت أمامنا السبل ، ورفعت المشاعل وتبينا السبيل ؟ أبدا .. لقد كنا أشد ما نكون حماسة وفتوة ونضارة ، فانتقلنا من الروض إلى بيداء التيه ، بعد أن ضاقت بنا السبل ، ودفعنا المجتمع إلى ركوب هذا الطريق .. فيجب أن نمضى إلى النهاية ..

إن أحدا من الناس لم يفكر فى الساعة الفاصلة فى تاريخ الإنسان .. الساعة الفاصلة فى تاريخ الرجل ، التى قد يكون بعدها ملاكا رحيما أو شيطانا رجيما .. لقد مرت بنا تلك المحنة القاسية كما لم تمر على مخلوق بشرى ، وكنا نتعذب ونقاسى من البرد والجوع والشقاء ، ونحمل من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال .. كنا نعمل ونحن صغار فى الحقول ، فلا نحصل فى آخر النهار حتى على ما يمسك الحوباء ، كنا نرتعش من البرد فى ليالى الشتاء ، ونتألم من الجوع .. ولم يكن عملنا منتظما ، بل كنا نعمل يوما ونتبطل خمسة .. وكان كل شىء يعمل على عذابنا وشقائنا ، فلم يكن بد من هذه الطريق !

ولم نكن نشعر فى أول الأمر ، بعد كل حادثة سطو بشعور الرجل الراضى عن عمله وفعله ، بل كنا فى ساعات كثيرة نشعر بالندم ، وعذاب القلق ، إذا ما اسفرت الليلة عن محنة وبانت عن قتيل .. ثم مضت الأيام وجرفنا التيار إلى نهاية المنحدر ، فغلظت قلوبنا .. وماتت ضمائرنا .. وغدونا أشد ضراوة من الوحوش ..

***

كان النور قد شعشع على الكون ، وبدت المقابر المتناثرة على سفح الجبل .. وحلقت الغربان فى الجو .. وتطلعنا إلى قرن الجبل ، ولمحنا عن بعد ذئابا تنحدر عن قمته ، وخيل إلينا أنها ترقبنا عن بعد .. ما أشبهنا بهذه الذئاب .. إنها تسعى الآن لتأكل إنسانا أو حيوانا ، فإذا لم تجد أكلت نفسها ..

رمقنا هذه الذئاب بعيون تتقد غيظا وحنقا .. وكانت تنظر إلينا بمثل نظرتنا .. وتنحدر عن التل لتأخذ علينا الطريق .

بحثنا عن فأس لنحفر لرفيقنا حفرة .. فلم نجد .. وأخذنا نعمل فى التراب بأيدينا وأطراف بنادقنا ، حتى حفرنا له حفرة ، وواريناه .. ونفضنا عن أيدينا الغبار .. وكانت الذئاب لاتزال تنحدر عن التل ، وتتجه نحونا ، أو تتجه نحو المقبرة الجديدة !

وكانت ترقبنا بعيون جائعة !

==============================
نشرت فى مجموعة قصص " الذئاب الجائعة " لمحمود البدوى عام 1944 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
===============================

ليست هناك تعليقات: